فصل: كِتَابُ الدَّعْوَى.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***


‏[‏ فَصْلٌ‏:‏ فِي جَوَازِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا ‏]‏

المتن‏:‏

تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ، وَفِي عُقُوبَةٍ لِآدَمِيٍّ عَلَى الْمَذْهَبِ،

الشَّرْحُ‏:‏

‏[‏ فَصْلٌ ‏]‏ فِي جَوَازِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا ‏(‏تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ‏)‏ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ وَلِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَدْ يَتَعَذَّرُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ لَازِمٌ فَيُشْهَدُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّهَا طَرِيقٌ تُظْهِرُ الْحَقَّ كَالْإِقْرَارِ فَيُشْهَدُ عَلَيْهَا، لَكِنَّهَا إنَّمَا تُقْبَلُ ‏(‏فِي غَيْرِ عُقُوبَةٍ‏)‏ لِلَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِ إحْصَانٍ كالأقارير وَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالرَّضَاعِ وَالْوِلَادَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ، سَوَاءٌ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَوَقْفِ الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَاتِ الْعَامَّةِ وَهِلَالِ رَمَضَانَ لِلصَّوْمِ وَذِي الْحَجَّةِ لِلْحَجِّ ‏(‏وَفِي‏)‏ إثْبَاتِ ‏(‏عُقُوبَةٍ لِآدَمِيٍّ عَلَى الْمَذْهَبِ‏)‏ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ‏.‏ أَمَّا الْعُقُوبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَخَرَجَ مِنْهُ قَوْلٌ فِي عُقُوبَةِ الْآدَمِيِّ، وَدُفِعَ التَّخْرِيجُ بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ‏.‏ بِخِلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ فِيهِ بِالْمَذْهَبِ‏.‏ وَأَمَّا الْإِحْصَانُ فِيمَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ فَكَالْحَدِّ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَاصِّ

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُفْهَمُ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ إحْصَانِ مَنْ ثَبَتَ زِنَاهُ مَنْعُ ثُبُوتِ بُلُوغِهِ؛؛ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الْعُقُوبَةِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِحْصَانِ‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَكَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَنْ لِعَانِهِ مِنْ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُلَاعِنْ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِانْتِقَاضِ عَهْدِ الذِّمِّيِّ لِيُخَيَّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أُمُورٍ فِيهَا الْقَتْلُ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِمَامِ بِاخْتِيَارِ الْقَتْلِ، وَعَلَى الْحَاكِمِ الَّذِي حَكَمَ بِقَتْلِ مَنْ نَزَلَ عَلَى حُكْمِهِ مِنْ الرِّجَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَعَلَى الْحَاكِمِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي‏.‏

المتن‏:‏

وَتَحَمُّلِهَا بِأَنْ يَسْتَرْعِيَهُ فَيَقُولُ‏:‏ أَنَا شَاهِدٌ بِكَذَا، وَأُشْهِدُك أَوْ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي، أَوْ يَسْمَعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ قَاضٍ، أَوْ يَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا عَنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَفِي هَذَا وَجْهٌ، وَلَا يَكْفِي سَمَاعُ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَشْهَدُ بِكَذَا، أَوْ عِنْدِي شَهَادَةٌ بِكَذَا، وَلِيُبَيِّن الْفَرْعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ جِهَةَ التَّحَمُّلِ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ وَوَثِقَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ فَلَا بَأْسَ،

الشَّرْحُ‏:‏

فَرْعٌ‏:‏

يَجُوزُ إشْهَادُ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ الْمَتْنِ وَصَرَّحَ بِهِ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ ‏(‏وَتَحَمُّلِهَا‏)‏ أَيْ الشَّهَادَةِ لَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ‏:‏ السَّبَبُ الْأَوَّلُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ‏(‏بِأَنْ يَسْتَرْعِيَهُ‏)‏ الْأَصْلُ - أَيْ يَلْتَمِسَ مِنْهُ رِعَايَةَ الشَّهَادَةِ وَحِفْظِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ نِيَابَةٌ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْإِذْنُ ‏(‏فَيَقُولُ‏)‏ الْأَصْلُ لِلْفَرْعِ ‏(‏أَنَا شَاهِدٌ بِكَذَا‏)‏ أَيْ بِأَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا ‏(‏وَأُشْهِدُك‏)‏ عَلَى شَهَادَتِي، أَوْ أَشْهَدْتُك عَلَى شَهَادَتِي ‏(‏أَوْ‏)‏ يَقُولُ ‏(‏اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي‏)‏ أَوْ إذَا شَهِدْتُ عَلَى شَهَادَتِي فَقَدْ أَذِنْتُ لَك فِي أَنْ تَشْهَدَ بِهِ‏.‏ قَالَ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ‏:‏ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ فِي الِاسْتِرْعَاءِ أُشْهِدُك عَلَى شَهَادَتِي وَعَنْ شَهَادَتِي، لَكِنَّهُ أَتَمُّ، فَقَوْلُهُ‏:‏ أُشْهِدُك عَلَى شَهَادَتِي تَحْمِيلٌ، وَقَوْلُهُ‏:‏ وَعَنْ شَهَادَتِي إذْنٌ فِي الْأَدَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَدِّهَا عَنِّي‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَيْسَ اسْتِرْعَاءُ الْأَصْلِ شَرْطٌ كَمَا يُفْهِمُ كَلَامُهُ، بَلْ مَتَى صَحَّ الِاسْتِرْعَاءُ لَمْ يَخْتَصَّ التَّحَمُّلُ بِالْمُسْتَرْعِي، بَلْ لَهُ وَلِمَنْ سَمِعَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَلَا يَكْفِي أَعْلَمَك وَأَخْبَرَك بِكَذَا وَنَحْوُهُمَا، كَمَا لَا يَكْفِي فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي‏.‏ السَّبَبُ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ بِأَنْ ‏(‏يَسْمَعَهُ يَشْهَدُ عِنْدَ قَاضٍ‏)‏ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ، كَمَا أَنَّ لِلْقَاضِي ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ‏.‏ السَّبَبُ الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ بِأَنْ يَسْمَعَهُ ‏(‏يَقُولُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفًا عَنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَيْرِهِ‏)‏ كَقَرْضٍ، فَإِذَا بَيَّنَ سَبَبَ الشَّهَادَةِ جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ؛؛ لِأَنَّ إسْنَادَهُ إلَى السَّبَبِ يَرْفَعُ احْتِمَالَ الْوَعْدِ وَالتَّسَاهُلِ ‏(‏وَفِي هَذَا‏)‏ السَّبَبِ الْأَخِيرِ ‏(‏وَجْهٌ‏)‏ أَنَّهُ لَا يَكْفِي لِاحْتِمَالِ التَّوَسُّعُ فِيهِ، وَحَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَصَحَّحَهُ الْبُلْقِينِيُّ

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَلَامُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَا قَبْلَ الْأَخِيرِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ عِنْدَ قَاضٍ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ فِيهِ وَجْهٌ بِعَدَمِ الْكِفَايَةِ أَيْضًا، وَوَرَدَ عَلَى حَصْرِهِ الْأَسْبَابَ فِيمَا ذَكَرَهُ صُوَرٌ‏:‏ مِنْهَا مَا إذَا سَمِعَهُ يُؤَدِّي عِنْدَ الْمُحَكَّمِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَلَمْ يَفْصِلَا بَيْنَ أَنْ يَقُولَ بِجَوَازِ التَّحْكِيمِ أَوْ لَا، وَبِهِ صَرَّحَ الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ عِنْدَهُ إلَّا وَهُوَ جَازِمٌ بِمَا يَشْهَدُ بِهِ وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ الِاكْتِفَاءُ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَمِيرٍ أَوْ وَزِيرٍ بِنَاءً عَلَى تَصْحِيحِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبَ أَدَائِهَا عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ؛؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْوَزِيرِ إلَّا وَهُوَ جَازِمٌ بِثُبُوتِ الْمَشْهُودِ بِهِ‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عِنْدَ الْكَبِيرِ الَّذِي دَخَلَ فِي الْقَضِيَّةِ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ، وَيَجُوزُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُقِرِّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ وَعَلَى الْحَاكِمِ إذَا قَالَ فِي مَحَلِّ حُكْمِهِ حَكَمْت بِكَذَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْبَغَوِيّ إقْرَارَهُ بِالْحُكْمِ‏.‏ وَمِنْهَا لَوْ كَانَ حَاكِمَا أَوْ مُحَكَّمًا فَشَهِدَا عِنْدَهُ وَلَمْ يَحْكُمْ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى ‏(‏وَلَا يَكْفِي‏)‏ جَزْمًا ‏(‏سَمَاعُ قَوْلِهِ‏)‏ أَيْ الْأَصْلِ ‏(‏لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَشْهَدُ بِكَذَا، أَوْ عِنْدِي شَهَادَةٌ بِكَذَا‏)‏ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الشَّهَادَةِ الَّتِي فِي مَعْرِضِ الْإِخْبَارِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ وَعْدٍ وَعَدَهُ إيَّاهُ، وَيُشِيرُ بِكَلِمَةِ عَلَى إلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ تَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِهَا ‏(‏وَلِيُبَيِّن‏)‏ الشَّاهِدُ ‏(‏الْفَرْعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ‏)‏ لِلشَّهَادَةِ ‏(‏جِهَةَ التَّحَمُّلِ‏)‏ فَإِنْ اسْتَرْعَاهُ الْأَصْلُ قَالَ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا شَهِدَ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، و أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَرْعِهِ بَيَّنَ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ الْمُحَكَّمِ، أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْمَشْهُودَ بِهِ إلَى سَبَبِهِ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَحَمَّلَهَا بِهِ فَيَعْرِفُ الْقَاضِي صِحَّتَهَا وَفَسَادَهَا، إذْ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْجَهْلُ بِجِهَةِ التَّحَمُّلِ ‏(‏فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ‏)‏ جِهَةَ التَّحَمُّلِ كَقَوْلِهِ‏:‏ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ فُلَانٍ بِكَذَا ‏(‏وَوَثِقَ الْقَاضِي بِعِلْمِهِ‏)‏ بِمَعْرِفَةِ شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ ‏(‏فَلَا بَأْسَ‏)‏ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ، وَلَكِنْ يُنْدَبُ أَنْ يَسْأَلَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ ثَبَتَ هَذَا الْمَالُ، وَهَلْ أَخْبَرَك بِهِ الْأَصْلُ أَوْ لَا‏؟‏‏.‏ وَنَازَعَ الْبُلْقِينِيُّ فِي الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ وَقَالَ‏:‏ إنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ الْأَصْحَابِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ عَلَى شَهَادَةِ مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ، وَلَا تَحْمِلُ النِّسْوَةُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ، فَقَالَ ‏(‏وَلَا يَصِحُّ‏)‏ ‏(‏التَّحَمُّلُ عَلَى شَهَادَةِ‏)‏ شَخْصٍ ‏(‏مَرْدُودِ الشَّهَادَةِ‏)‏ بِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ كَرِقٍّ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

شَمِلَ إطْلَاقُهُ مَا لَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا أَوْ بِالنِّسْبَةِ لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَا يَصِحُّ تَحَمُّلُهَا وَإِنْ كَانَ كَامِلًا فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ تُقْبَلْ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ‏(‏وَلَا تَحْمِلُ النِّسْوَةُ‏)‏ أَيْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِنَّ وَإِنْ كَانَتْ الْأُصُولُ أَوْ بَعْضُهُمْ نِسَاءٌ وَكَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي وِلَادَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ تُثْبِتُ شَهَادَةَ الْأَصْلِ لَا مَا شَهِدَ بِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَمْ يُصَرِّحْ فِي الْمُحَرَّرِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الدَّقَائِقِ‏:‏ لَيْسَتْ بِزِيَادَةٍ مَحْضَةٍ فَإِنَّهَا تُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ قَبْلَ هَذَا‏:‏ إنَّ مَا لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ غَالِبًا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِرَجُلَيْنِ انْتَهَى‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ مَاتَ الْأَصْلُ أَوْ غَابَ أَوْ مَرِضَ لَمْ يَمْنَعْ شَهَادَةَ الْفَرْعِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا تَحَمُّلُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، فَإِنْ بَانَتْ ذُكُورَتُهُ صَحَّ تَحَمُّلُهُ، وَلَوْ تَحَمَّلَ فَرْعٌ وَاحِدٌ عَنْ أَصْلٍ فِيمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، فَأَرَادَ ذُو الْحَقِّ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ هَذَا الْفَرْعِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ لَا تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ فَرْعَانِ فَلَهُ الْحَلِفُ مَعَهُمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ ‏(‏فَإِنْ مَاتَ الْأَصْلُ أَوْ‏)‏ حَدَثَ بِهِ مَانِعٌ لَا يَقْدَحُ كَأَنْ ‏(‏غَابَ أَوْ مَرِضَ لَمْ يَمْنَعْ‏)‏ ذَلِكَ ‏(‏شَهَادَةَ الْفَرْعِ‏)‏ أَيْ أَدَاءَهَا؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّهَا، كَمَا سَيَأْتِي بِشَرْطِهِ وَذُكِرَ هُنَا تَوْطِئَةً لِمَا بَعْدَهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ حَدَثَ رِدَّةٌ أَوْ فِسْقٌ أَوْ عَدَاوَةٌ مَنَعَتْ، وَجُنُونُهُ كَمَوْتِهِ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ‏)‏ ‏(‏حَدَثَ‏)‏ بِالْأَصْلِ مَانِعٌ قَادِحٌ، وَهُوَ ‏(‏رِدَّةٌ أَوْ فِسْقٌ أَوْ عَدَاوَةٌ‏)‏ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ‏(‏مَنَعَتْ‏)‏ هَذِهِ الْقَوَادِحُ وَمَا أَشْبَهَهَا شَهَادَةَ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَهْجُمُ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ الْفِسْقُ يُورِثُ الرِّيبَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالرِّدَّةُ تُشْعِرُ بِخُبْثٍ فِي الْعَقِيدَةِ، وَالْعَدَاوَةُ بِضَغَائِنَ كَانَتْ مُسْتَكِنَّةً وَلَيْسَ لِمُدَّةِ ذَلِكَ ضَبْطٌ فَيُعْطَفُ إلَى حَالَةِ التَّحَمُّلِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ حَدَثَ الْفِسْقُ أَوْ الرِّدَّةُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ، وَهَذَا مِمَّا يُلْغَزُ بِهِ فَيُقَالُ‏:‏ عَدْلَانِ شَهِدَا بِشَيْءٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ثُمَّ امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا لِفِسْقِ غَيْرِهِمَا، وَلَا أَثَرَ لِحُدُوثِ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَذَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَهُوَ مُقَيَّدٌ فِي الْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي حَدٍّ لِآدَمِيٍّ، أَوْ قِصَاصٍ لَمْ يُسْتَوْفَ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُسْتَوْفَ كَالرُّجُوعِ بِخِلَافِ حُدُوثِ الْعَدَاوَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ أَوْ قَبْلَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ ‏(‏وَجُنُونُهُ‏)‏ أَيْ الْأَصْلُ إذَا كَانَ مُطْبَقًا وَخَرَسُهُ وَعَمَاهُ ‏(‏كَمَوْتِهِ‏)‏ فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوقِعُ رَيْبَهُ فِي الْمَاضِي وَالثَّانِي يَمْنَعُ كَالْفِسْقِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَالْجُنُونِ الْإِغْمَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَاضِرًا فَلَا يَشْهَدُ الْفَرْعُ بَلْ يُنْتَظَرُ زَوَالُ الْإِغْمَاءِ لِقُرْبِ زَوَالِهِ، قَالَهُ الْإِمَامُ وَأَقَرَّهُ‏.‏ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ‏:‏ وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ كُلُّ مَرَضٍ يُتَوَقَّعُ قُرْبُ زَوَالِهِ، قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ وَالصَّوَابُ الْفَرْقُ لِبَقَاءِ أَهْلِيَّةِ الْمَرِيضِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ انْتَهَى، وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ بِأَنَّهُ إذَا انْتَظَرْنَا إفَاقَةَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فَانْتِظَارُ الْمَرِيضِ الْأَهْلِ أَوْلَى بِلَا شَكٍّ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ تَحَمَّلَ فَرْعٌ فَاسِقٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ فَأَدَّى وَهُوَ كَامِلٌ قُبِلَتْ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏تَحَمَّلَ فَرْعٌ فَاسِقٌ‏)‏ أَوْ كَافِرٌ ‏(‏أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ فَأَدَّى وَهُوَ كَامِلٌ‏)‏ بِعَدَالَةٍ فِي الْأَوَّلِ، وَإِسْلَامٍ فِي الثَّانِي، وَحُرِّيَّةٍ فِي الثَّالِثِ، وَبُلُوغٍ فِي الرَّابِعِ ‏(‏قُبِلَتْ‏)‏ حِينَئِذٍ شَهَادَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ كَالْأَصْلِ إذَا تَحَمَّلَ وَهُوَ نَاقِصٌ ثُمَّ أَدَّى بَعْدَ كَمَالِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَا بُدَّ مِنْ عَدَدِ الْفَرْعِ، وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهَا الْوَاحِدُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَكْفِي شَهَادَةُ اثْنَيْنِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ يُشْتَرَطُ لِكُلِّ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ اثْنَانِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَكْفِي شَهَادَةُ اثْنَيْنِ‏)‏ فَرْعَيْنِ ‏(‏عَلَى الشَّاهِدَيْنِ‏)‏ الْأَصْلِيَّيْنِ كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى مُقِرَّيْنِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَشْهَدَ كُلٌّ مِنْ الْفَرْعَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَصْلَيْنِ، وَلَا يَكْفِي وَاحِدٌ عَلَى هَذَا وَوَاحِدٌ عَلَى الْآخَرِ قَطْعًا وَإِنْ أَوْهَمَ كَلَامُهُ خِلَافَهُ وَلَا يَكْفِي أَيْضًا أَصْلٌ شَهِدَ مَعَ فَرْعٍ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَنْ قَامَ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الْبَيِّنَةِ لَا يَقُومُ بِالْآخَرِ وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يَكْفِي شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا مَقَامُ رَجُلٍ ‏(‏وَفِي قَوْلٍ‏)‏ صَحَّحَهُ جَمْعٌ ‏(‏يُشْتَرَطُ لِكُلِّ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ‏)‏ مِنْ الْأُصُولِ ‏(‏اثْنَانِ‏)‏؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى وَاحِدٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ شَهَادَتِهِ فَلَا تَقُومُ مَقَامَ شَهَادَةِ غَيْرِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَشَرْطُ قَبُولِهَا تَعَذُّرُ أَوْ تَعَسُّرُ الْأَصِيلِ بِمَوْتٍ أَوْ عَمًى، أَوْ مَرَضٍ يَشُقُّ حُضُورُهُ، أَوْ غَيْبَةٌ لِمَسَافَةِ عَدْوَى، وَقِيلَ قَصْرٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَشَرْطُ‏)‏ شَهَادَةِ الْفَرْعِ فِي ‏(‏قَبُولِهَا تَعَذُّرُ أَوْ تَعَسُّرُ الْأَصْلِ بِمَوْتٍ أَوْ عَمًى‏)‏ لَا تُسْمَعُ مَعَهُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى‏.‏ وَهَذَانِ مِثَالَانِ لِلتَّعَذُّرِ، وَمِثْلُهُمَا الْجُنُونُ الْمُطْبِقُ وَالْخَرَسُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ، فَلَوْ قَالَ كَالْمَوْتِ كَانَ أَوْلَى ‏(‏أَوْ مَرَضٍ يَشُقُّ حُضُورُهُ‏)‏ مَشَقَّةً ظَاهِرَةً بِأَنْ يَجُوزَ لِأَجْلِهِ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَخَوْفٍ مِنْ غَرِيمٍ وَسَائِرِ أَعْذَارِ الْجُمُعَةِ، كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّهَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَمَا ذُكِرَ مِنْ ضَابِطِ الْمَرَضِ هُنَا نَقَلَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ نَقْلًا وَعَقْلًا وَبَيَّنَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ عَلَى أَنَّ إلْحَاقَهُ سَائِرَ أَعْذَارِ الْجُمُعَةِ بِالْمَرَضِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ أَكَلَ مَالَهُ رِيحٌ كَرِيهَةٌ عُذِرَ فِي الْجُمُعَةِ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ هُنَا بِأَنَّ أَكْلَ شُهُودِ الْأَصْلِ ذَلِكَ يُسَوِّغُ سَمَاعَ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْأَذْرَعِيُّ، وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشُقُّ مَعَهُ الْحُضُورُ ‏(‏أَوْ غَيْبَةٌ لِمَسَافَةِ عَدْوَى‏.‏ وَقِيلَ‏)‏ لِمَسَافَةِ ‏(‏قَصْرٍ‏)‏؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْبَلَدِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ لِمَسَافَةِ عَدْوَى نَسَبَ فِيهِ إلَى سَبْقِ الْقَلَمِ، وَصَوَابُهُ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى كَمَا هُوَ فِي الْمُحَرَّرِ وَالرَّوْضَةِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ الْمُسَوِّغَ لِشَهَادَةِ الْفَرْعِ غَيْبَةُ الْأَصْلِ فَوْقَ مَسَافَةِ الْعَدْوَى‏.‏ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَهُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ أَنْ يُدْعَى مِنْ مَسَافَةِ الْعَدْوَى، فَكَيْفَ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَعَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَصْلِ‏؟‏، وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ هُنَا تَكْرَارًا مَعَ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ مَوْتَ الْأَصْلِ وَغَيْبَتَهُ وَمَرَضَهُ لَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي بَيَانِ طَرَيَانِ الْعُذْرِ، وَهَذَا فِي الْمُسَوِّغِ لِلشَّهَادَةِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ شُرُوطِ الْغَيْبَةِ شُهُودُ التَّزْكِيَةِ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عِنْدَ الْقَاضِي عَلَى شَهَادَةِ الْمُزَكَّى مَعَ حُضُورِ الْمُزَكِّينَ فِي الْبَلَدِ كَمَا ذَكَرَاهُ فِي فَصْلِ التَّزْكِيَةِ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ‏.‏ وَلَوْ شَهِدَ الْفَرْعُ فِي غَيْبَةِ الْأَصْلِ ثُمَّ حَضَرَ، أَوْ قَالَ‏:‏ لَا أَعْلَمُ أَنِّي تَحَمَّلْتُ أَوْ نَسِيتُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا لِحُصُولِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْأُولَى وَالرِّيبَةِ فِيمَا عَدَاهَا أَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا لَمْ يُؤَثِّرْ، وَلَوْ كَذَّبَ بِهِ الْأَصْلُ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يُنْقَضْ‏.‏ قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏:‏ وَيَظْهَرُ أَنْ يَجِيءَ تَغْرِيمُهُمْ وَالتَّوَقُّفُ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُقُوبَةِ مَا يَأْتِي فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَهُوَ ظَاهِرٌ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ كَذَّبَهُ قَبْلَهُ فَيُنْقَضُ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ تَفَقُّهًا إلَّا إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَشْهَدَهُ فَلَا يُنْقَضُ، وَاسْتَثْنَى الشَّيْخَانِ بَحْثًا مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَعُمُّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ كَالْمَطَرِ وَالْوَحْلِ الشَّدِيدِ فَلَا تُسْمَعُ مَعَهُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ‏.‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ‏:‏ وَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ مُشَارَكَةَ غَيْرُهُ لَهُ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عُذْرًا فِي حَقِّهِ، فَلَوْ تَجَشَّمَ الْمَشَقَّةَ وَحَضَرَ وَأَدَّى قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ا هـ‏.‏

وَقَدْ يُجَابُ عَنْ كَلَامِهِمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَا تُسْمَعُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مِنْهُ - أَيْ لَا تَلْزَمُهُ - فَمَنْ تَجَشَّمَ الْمَشَقَّةَ مِنْهُمَا وَحَضَرَ وَأَدَّى قُبِلَتْ، فَإِنَّ الشَّيْخَيْنِ لَا يَمْنَعَانِ ذَلِكَ وَحَيْثُ أَمْكَنَ حَمْلُ الْعِبَارَةِ عَلَى مَعْنًى صَحِيحٍ، وَلَوْ مَعَ الْبُعْدِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِهِ بَاطِلًا خُصُوصًا مَنْ عَظُمَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي الْعِلْمِ‏.‏

المتن‏:‏

وَأَنْ يُسَمِّيَ الْأُصُولَ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُزَكِّيَهُمْ الْفُرُوعُ، فَإِنْ زَكَّوْهُمْ قُبِلَ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ عُدُولٍ وَلَمْ يُسَمُّوهُمْ لَمْ يَجُزْ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ يُشْتَرَطُ ‏(‏أَنْ يُسَمِّيَ الْأُصُولَ‏)‏ وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا لِيَعْرِفَ الْقَاضِي عَدَالَتَهُمْ وَيَتَمَكَّنَ الْخَصْمُ مِنْ الْجُرْحِ إنْ عَرِفَهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

شَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ كَانَ الْأَصْلُ قَاضِيًا كَمَا لَوْ قَالَ‏:‏ أَشْهَدَنِي قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ مِصْرَ أَوْ الْقَاضِي الَّذِي بِهَا وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَلَيْسَ بِهَا سِوَاهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَالصَّوَابُ فِي وَقْتِنَا وُجُوبُ تَعْيِينِ الْقَاضِي أَيْضًا لِمَا لَا يَخْفَى ‏(‏وَلَا يُشْتَرَطُ‏)‏ فِي شَهَادَةِ الْأُصُولِ ‏(‏أَنْ يُزَكِّيَهُمْ الْفُرُوعُ‏)‏ بَلْ لَهُمْ إطْلَاقُ الشَّهَادَةِ وَالْقَاضِي يَبْحَثُ عَنْ عَدَالَةِ الْأُصُولِ، وَلَا يَلْزَمُ الْفَرْعُ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي شَهَادَتِهِ لِصِدْقِ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي مَعَ شَاهِدِهِ حَيْثُ يَتَعَرَّضُ لِصِدْقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ ‏(‏فَإِنْ زَكَّوْهُمْ‏)‏ وَهُمْ أَهْلٌ لِلتَّعْدِيلِ غَيْرُ مُتَّهَمِينَ ‏(‏قُبِلَ‏)‏ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ فِي وَاقِعَةٍ وَزَكَّى أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ عَدَالَةَ الثَّانِي فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ تَزْكِيَةَ الْفُرُوعِ لِلْأُصُولِ مِنْ تَتِمَّةِ شَهَادَتِهِمْ، وَلِذَلِكَ شَرَطَ بَعْضُهُمْ التَّعَرُّضَ لَهَا، وَهُنَاكَ قَامَ الشَّاهِدُ الْمُزَكَّى بِإِحْدَى شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَلَا يَصِحُّ قِيَامُهُ بِالثَّانِي ‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏شَهِدُوا‏)‏ أَيْ الْفُرُوعُ ‏(‏عَلَى شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ عُدُولٍ‏)‏ يَذْكُرُونَهُمْ ‏(‏وَلَمْ يُسَمُّوهُمْ‏)‏ ‏(‏لَمْ يَجُزْ‏)‏ أَيْ لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَعْرِفُ جُرْحَهُمْ لَوْ سَمَّوْهُمْ، وَلِأَنَّهُ يَسُدُّ بَابَ الْجُرْحِ عَلَى الْخَصْمِ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ‏:‏ وَأَنْ يُسَمِّيَ الْأُصُولَ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَّرَهَا لِيُفِيدَ أَنَّ تَزْكِيَةَ الْفُرُوعِ لِلْأُصُولِ وَإِنْ جَازَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمْ بِالِاسْمِ وَلَوْ قَدَّمَهُ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ‏.‏ ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏

لَوْ اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَفَرْعُ أَصْلٍ آخَرَ قُدِّمَ عَلَيْهِمَا فِي الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِيهِ يَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، قَالَ صَاحِبُ الِاسْتِقْصَاءِ‏.‏

‏[‏ فَصْلٌ‏:‏ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ ‏]‏

المتن‏:‏

رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ، أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ مَالٍ اُسْتُوْفِيَ، أَوْ عُقُوبَةٍ فَلَا، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يُنْقَضْ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏[‏ فَصْلٌ ‏]‏ فِي رُجُوعِ الشُّهُودِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ‏.‏ إذَا ‏(‏رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ‏)‏ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهَا بَعْدَ الْأَدَاءِ وَ ‏(‏قَبْلَ الْحُكْمِ‏)‏ ‏(‏امْتَنَعَ‏)‏ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ أَعَادُوهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي عُقُوبَةٍ أَمْ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَدْرِي أَصَدَقُوا فِي الْأَوَّلِ أَوْ فِي الثَّانِي فَيَنْتَفِي ظَنُّ الصِّدْقِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ كَذِبَهُمْ ثَابِتٌ لَا مَحَالَةَ إمَّا فِي الشَّهَادَةِ أَوْ الرُّجُوعِ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْكَذَّابِ، وَلَا يَفْسُقُونَ بِرُجُوعِهِمْ إلَّا إنْ قَالُوا‏:‏ تَعَمَّدْنَا شَهَادَةَ الزُّورِ فَيَفْسُقُونَ، وَلَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فِي زِنًا حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ، وَإِنْ قَالُوا‏:‏ غَلِطْنَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْيِيرِ وَكَانَ حَقُّهُمْ التَّثَبُّتُ وَكَمَا لَوْ رَجَعُوا عَنْهَا بَعْدَ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ التَّصْرِيحُ بِهِ فَيَقُولُ‏:‏ رَجَعْتُ عَنْ شَهَادَتِي، فَلَوْ قَالَ‏:‏ أَبْطَلْت شَهَادَتِي أَوْ فَسْخَتُهَا أَوْ رَدَدْتُهَا فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِيمَا قَبْلَهُ‏؟‏ وَلَوْ قَالُوا لِلْحَاكِمِ بَعْدَ شَهَادَتِهِمْ‏:‏ تَوَقَّفْ عَنْ الْحُكْمِ‏.‏ ثُمَّ قَالُوا لَهُ‏:‏ اُحْكُمْ فَنَحْنُ عَلَى شَهَادَتِنَا حَكَمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ رُجُوعَهُمْ وَلَا بَطَلَتْ أَهْلِيَّتُهُمْ، وَإِنْ شَكَّ فَقَدْ زَالَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ مِنْ أَهْلٍ جَازِمٍ، وَالتَّوَقُّفُ الطَّارِئُ قَدْ زَالَ ‏(‏أَوْ‏)‏ رَجَعُوا ‏(‏بَعْدَهُ‏)‏ أَيْ الْحُكْمِ ‏(‏وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ مَالٍ‏)‏ فِي شَهَادَةٍ بِهِ أَوْ عَقْدٍ وَلَوْ نِكَاحٍ نَفَذَ الْحُكْمُ بِهِ وَ ‏(‏اُسْتُوْفِيَ‏)‏ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ تَمَّ، وَلَيْسَ هَذَا مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى يَتَأَثَّرَ بِالرُّجُوعِ‏.‏ وَأَمَّا الْفُسُوخُ فَتَسْتَمِرُّ عَلَى إمْضَائِهَا ‏(‏أَوْ‏)‏ رَجَعُوا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ ‏(‏عُقُوبَةٍ‏)‏ فِي شَهَادَةٍ بِهَا سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لِآدَمِيٍّ كَحَدِّ زِنًا وَحَدِّ قَذْفٍ ‏(‏فَلَا‏)‏ يَسْتَوْفِي تِلْكَ الْعُقُوبَةَ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ ‏(‏أَوْ بَعْدَهُ‏)‏ أَيْ اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ ‏(‏لَمْ يُنْقَضْ‏)‏ أَيْ الْحُكْمُ لِتَأَكُّدِ الْأَمْرِ وَلِجَوَازِ صِدْقِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ، وَكَذِبِهِمْ فِي الرُّجُوعِ وَعَكْسِهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا أَوْ قَتْلِ رِدَّةٍ أَوْ رَجْمِ زِنًا أَوْ جَلْدِهِ وَمَاتَ وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏فَإِنْ كَانَ‏)‏ ‏(‏الْمُسْتَوْفَى‏)‏ عُقُوبَةً كَأَنْ كَانَ ‏(‏قِصَاصًا‏)‏ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ ‏(‏أَوْ قَتْلِ رِدَّةٍ أَوْ رَجْمِ زِنًا أَوْ جَلْدِهِ‏)‏ بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ لِضَمِيرِ الزِّنَا، وَلَوْ حَذَفَهُ كَانَ أَخْصَرَ وَأَعَمَّ لِيَشْمَلَ جَلْدَ قَذْفٍ وَشُرْبٍ ‏(‏وَمَاتَ‏)‏ الْمَجْلُودُ أَوْ قَطْعِ سَرِقَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، ثُمَّ رَجَعُوا ‏(‏وَقَالُوا‏:‏ تَعَمَّدْنَا‏)‏ شَهَادَةً أَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ تَعَمَّدْت وَلَا أَعْلَمُ حَالَ صَاحِبِي مَعَ قَوْلِهِمْ‏:‏ عَلِمْنَا أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْهُ بِقَوْلِنَا ‏(‏فَعَلَيْهِمْ قِصَاصُ‏)‏ غَائِلَةٍ إنْ جَهِلَ الْوَلِيُّ تَعَمُّدَهُمْ وَإِلَّا فَالْقِصَاصُ عَلَيْهِ فَقَطْ كَمَا أَفَادَهُ كَلَامُ الْمَتْنِ فِي الْجِنَايَاتِ وَسَيَأْتِي ‏(‏أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ‏)‏ فِي مَالِهِمْ مُوَزَّعَةٌ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِتَسَبُّبِهِمْ إلَى إهْلَاكِهِ، وَلَوْ قَالَ كُلٌّ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ‏:‏ تَعَمَّدْت وَأَخْطَأَ صَاحِبِي فَلَا قِصَاصَ لِانْتِفَاءِ تَمَحُّضِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِهِ، بَلْ يَلْزَمُهُمَا دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا‏:‏ تَعَمَّدْت وَصَاحِبِي أَخْطَأَ أَوْ قَالَ تَعَمَّدْت وَلَا أَدْرِي أَتَعَمَّدَ صَاحِبِي أَمْ لَا، وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ لَا يُمْكِنُ مُرَاجَعَتُهُ أَوْ اقْتَصَرَ عَلَى تَعَمَّدْت‏.‏ وَقَالَ صَاحِبُهُ‏:‏ أَخْطَأْت فَلَا قِصَاصَ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ قَالَ‏:‏ تَعَمَّدْت وَتَعَمَّدَ صَاحِبِي، وَهُوَ غَائِبٌ أَوْ مَيِّتٌ اُقْتُصَّ مِنْهُ، وَلَوْ اعْتَرَفَ أَحَدُهُمَا بِعَمْدِهِمَا وَالْآخَرُ بِعَمْدِهِ وَخَطَأِ صَاحِبِهِ اُقْتُصَّ مِنْ الْأَوَّلِ لِاعْتِرَافِهِ بِتَعَمُّدِهِمَا جَمِيعًا دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ إلَّا بِشَرِكَةِ مُخْطِئٍ، وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِقَوْلِنَا، بَلْ يُحَدُّونَ فِي شَهَادَةِ الزِّنَا حَدَّ الْقَذْفِ، ثُمَّ يُرْجَمُونَ، وَلَا يَضُرُّ فِيهِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَلَا قَدْرِ الْحَجْرِ وَعَدَمِهِ‏.‏ قَالَ الْقَاضِي‏:‏ لِأَنَّ ذَلِكَ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، وَقِيلَ‏:‏ يُقْتَلُونَ بِالسَّيْفِ وَرَجَّحَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ إلَّا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَنَشْئِهِمْ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ فَيَكُونُ شِبْهَ عَمْدٍ، وَإِنْ قَالُوا‏:‏ أَخْطَأْنَا فِي شَهَادَتِنَا فَدِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ مُوَزَّعَةٌ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ إنْ كَذَّبَتْهُمْ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ لَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ مَا لَمْ تُصَدِّقْهُمْ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الدِّيَةُ، وَكَذَا إنْ سَكَتَتْ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ كَثِيرٍ خِلَافًا لِمَا يُفْهِمُهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُمْ لَزِمَهُ الدِّيَةُ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

لَوْ ادَّعَوْا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَعْرِفُ خَطَأَهُمْ هَلْ لَهُمْ تَحْلِيفُهَا أَوْ لَا‏؟‏ رَأْيَانِ‏:‏ أَوْجَهُهُمَا أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ كَمَا رَجَّحَهُ الْإِسْنَوِيُّ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ غَرِمَتْ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي مِنْ عَدَمِ التَّحْلِيفِ‏.‏

المتن‏:‏

وَعَلَى الْقَاضِي قِصَاصٌ إنْ قَالَ تَعَمَّدْت، وَإِنْ رَجَعَ هُوَ وَهُمْ فَعَلَى الْجَمِيعِ قِصَاصٌ إنْ قَالُوا‏:‏ تَعَمَّدْنَا، فَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةٍ وَعَلَيْهِمْ نِصْفٌ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَعَلَى الْقَاضِي‏)‏ الرَّاجِعِ دُونَ الشُّهُودِ ‏(‏قِصَاصٌ‏)‏ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ ‏(‏إنْ قَالَ‏:‏ تَعَمَّدْت‏)‏ الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ أَخْطَأْتُ فَدِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ ‏(‏وَإِنْ‏)‏ ‏(‏رَجَعَ هُوَ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏وَهُمْ‏)‏ أَيْ الشُّهُودُ ‏(‏فَعَلَى الْجَمِيعِ قِصَاصٌ‏)‏ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ ‏(‏إنْ قَالُوا‏:‏ تَعَمَّدْنَا‏)‏ ذَلِكَ لِاعْتِرَافِهِمْ بِالتَّسَبُّبِ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا عُدْوَانًا ‏(‏فَإِنْ قَالُوا‏:‏ أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِ‏)‏ أَيْ الْقَاضِي ‏(‏نِصْفُ دِيَةٍ، وَعَلَيْهِمْ‏)‏ أَيْ الشُّهُودِ ‏(‏نِصْفٌ‏)‏ مِنْهَا تَوْزِيعًا عَلَى الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ‏.‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ كَذَا نَقَلَهُ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ عِنْدَ رُجُوعِهِ وَحْدَهُ كَمَا لَوْ رَجَعَ بَعْضُ الشُّهُودِ ا هـ‏.‏

وَرُدَّ الْقِيَاسُ بِأَنَّ الْقَاضِيَ قَدْ يَسْتَقِلُّ بِالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا إذَا قَضَى بِعِلْمِهِ، بِخِلَافِ الشُّهُودِ، وَبِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ عِنْدَ رُجُوعِ الشُّهُودِ وَحْدَهُمْ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ رَجَعَ مُزَكٍّ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ، أَوْ وَلِيٌّ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ أَوْ مَعَ الشُّهُودِ فَكَذَلِكَ، وَقِيلَ‏:‏ هُوَ وَهُمْ شُرَكَاءُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏رَجَعَ مُزَكٍّ‏)‏ وَحْدَهُ عَنْ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَلَوْ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ ‏(‏فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ‏)‏ بِالْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّزْكِيَةِ يُلْجِئُ الْقَاضِيَ إلَى الْحُكْمِ الْمُفْضِي إلَى الْقَتْلِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِلِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ عَلِمْتُ كَذِبَهُمْ وَقَوْلِهِ عَلِمْتُ فِسْقَهُمْ، وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ، وَإِنْ قَالَ الْقَفَّالُ‏:‏ مَحَلُّهُ إذَا قَالَ عَلِمْتُ كَذِبَهُمْ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ عَلِمْتُ فِسْقَهُمْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُصَدَّقُونَ مَعَ فِسْقِهِمْ ‏(‏أَوْ‏)‏ رَجَعَ ‏(‏وَلِيٌّ‏)‏ لِلدَّمِ ‏(‏وَحْدَهُ‏)‏ دُونَ الشُّهُودِ ‏(‏فَعَلَيْهِ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ‏)‏ بِكَمَالِهَا؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْقَتْلِ ‏(‏أَوْ‏)‏ رَجَعَ ‏(‏مَعَ الشُّهُودِ فَكَذَلِكَ‏)‏ يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ عَلَى الْوَلِيِّ وَحْدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ لِلْمُبَاشَرَةِ وَهُمْ مَعَهُ كَالْمُمْسِكِ مَعَ الْقَاتِلِ ‏(‏وَقِيلَ‏:‏ هُوَ وَهُمْ شُرَكَاءُ‏)‏ لِتَعَاوُنِهِمْ فِي الْقَتْلِ فَعَلَيْهِمْ الْقَوَدُ، وَإِنْ آلَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ فَعَلَيْهِمْ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ عَلَى الْوَلِيِّ، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَجَعَ الْوَلِيُّ وَالْقَاضِي وَالشُّهُودُ كَانَ عَلَى كُلٍّ الثُّلُثُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ وَقِيلَ‏:‏ هُوَ هُمْ كَالشَّرِيكَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ شُرَكَاءُ يُوهِمُ أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ فِي الضَّمَانِ مُطْلَقًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ شَهِدَا بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ لِعَانٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي فَرَجَعَا دَامَ الْفِرَاقُ وَعَلَيْهِمْ مَهْرُ مِثْلٍ، وَفِي قَوْلٍ نِصْفُهُ إنْ كَانَ قَبْلَ وَطْءٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏شَهِدَا‏)‏ عَلَى شَخْصٍ ‏(‏بِطَلَاقٍ بَائِنٍ‏)‏ سَوَاءٌ أَكَانَ بِعِوَضٍ أَمْ بِثَلَاثٍ أَمْ قَبْلَ الدُّخُولِ ‏(‏أَوْ رَضَاعٍ‏)‏ مُحَرِّمٍ ‏(‏أَوْ لِعَانٍ‏)‏ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْبَيْنُونَةُ كَالْفَسْخِ بِعَيْبٍ ‏(‏وَفَرَّقَ الْقَاضِي‏)‏ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ‏(‏فَرَجَعَا‏)‏ عَنْ شَهَادَتِهِمَا بِمَا ذُكِرَ ‏(‏دَامَ الْفِرَاقُ‏)‏؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الرُّجُوعِ مُحْتَمَلٌ فَلَا يُرَدُّ الْحُكْمُ بِقَوْلٍ مُحْتَمَلٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ دَامَ الْفِرَاقُ لَا يَأْتِي فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِهِ فِي الرَّضَاعِ وَاللِّعَانِ، فَلَوْ عَبَّرَ بَدَلَ دَامَ بِنَفَذَ، أَوْ بِقَوْلِ الرَّوْضَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ الْفِرَاقُ كَانَ أَوْلَى ‏(‏وَعَلَيْهِمْ‏)‏ أَيْ الشُّهُودِ الرَّاجِعِينَ لِلزَّوْجِ ‏(‏مَهْرُ مِثْلٍ‏)‏ وَلَوْ قَبْلَ وَطْءٍ أَوْ بَعْدَ إبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجِهَا مِنْ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا فَوَّتَاهُ عَلَيْهِ ‏(‏وَفِي قَوْلٍ نِصْفُهُ إنْ كَانَ‏)‏ حُكْمُ الْقَاضِي بِالْفِرَاقِ ‏(‏قَبْلَ وَطْءٍ‏)‏؛ لِأَنَّهُ الَّذِي فَاتَ عَلَى الزَّوْجِ‏.‏ وَالْأَوَّلُ نَظَرَ إلَى بَدَلِ الْبُضْعِ الْمُفَوَّتِ بِالشَّهَادَةِ إذْ النَّظَرُ فِي الْإِتْلَافِ إلَى الْمُتْلَفِ لَا إلَى مَا قَامَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ سَوَاءٌ أَدَفَعَ إلَيْهَا الزَّوْجُ الْمَهْرَ أَمْ لَا، بِخِلَافِ نَظِيرِهِ فِي الدَّيْنِ لَا يَغْرَمُونَ قَبْلَ دَفْعِهِ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ هُنَا تَحَقَّقَتْ، فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَتُهُ الْكَبِيرَةُ زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَهَا نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَقَطْ فَهَلَّا كَانَ هُوَ الْأَصَحُّ هُنَا‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ فُرْقَةَ الرَّضَاعِ حَقِيقَةٌ فَلَا تُوجِبُ إلَّا النِّصْفَ كَالْمُفَارَقَةِ بِالطَّلَاقِ، وَهُنَا النِّكَاحُ بَاقٍ بِزَعْمِ الزَّوْجِ وَالشُّهُودِ لَكِنَّهُمْ بِشَهَادَتِهِمْ حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبُضْعِ فَغَرِمُوا قِيمَتَهُ كَالْغَاصِبِ الْحَائِلِ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَغْصُوبِ‏.‏ وَخَرَجَ بِالْبَائِنِ الرَّجْعِيِّ فَلَا غُرْمَ فِيهِ عَلَيْهِمْ إذْ لَمْ يُفَوِّتُوا عَلَيْهِ شَيْئًا لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ، فَإِنْ لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا غَرِمَا كَمَا فِي الْبَائِنِ، وَإِنْ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ الْأَصَحُّ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُمَا لَا يَغْرَمَانِ شَيْئًا إذَا أَمْكَنَ الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ فَتَرَكَهَا بِاخْتِيَارِهِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ تَدَارُكِ دَفْعِ مَا يَعْرِضُ بِجِنَايَةِ الْغَيْرِ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ جَرَحَ شَاةَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَذْبَحْهَا مَالِكُهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ حَتَّى مَاتَتْ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ‏:‏ وَعَلَيْهِمَا بِضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ كَانَ أَوْلَى، وَقَوْلُ الشَّارِحِ‏:‏ لِأَنَّ ‏"‏ عَلَيْهِمْ ‏"‏ أَخَصْرُ مِنْ ‏"‏ عَلَيْهِمَا ‏"‏ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، وَلَوْ قَالُوا فِي رُجُوعِهِمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ كَانَ رَجْعِيًّا‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ الْأَرْجَحُ عِنْدِي أَنَّهُمْ يَغْرَمُونَ؛ لِأَنَّهُمْ قَطَعُوا عَلَيْهِ مِلْكَ الرَّجْعَةِ الَّذِي هُوَ كَمِلْكِ الْبُضْعِ قَالَ‏:‏ وَهُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِهِمْ الْغُرْمَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَشَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ الْبَائِنَ مَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ الْمَشْهُودُ بِهِ تَكْمِلَةُ الثَّلَاثِ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ فِي الْحَاوِي يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ؛ لِأَنَّهُمْ مَنَعُوهُ بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْبُضْعِ كَالثَّلَاثِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يَجِبُ قَسْطُ الطَّلْقَةِ الْمَشْهُودِ بِهَا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْصُلُ بِالْمَجْمُوعِ‏.‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ صُوَرٌ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ إذَا قَالَ الزَّوْجُ بَعْدَ الْإِنْكَارِ‏:‏ إنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَلَا رُجُوعَ لَهُ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ أَمْ بَعْدَهُ‏.‏ الثَّانِيَةُ‏:‏ إذَا لَمْ يَرْجِعُوا إلَّا بَعْدَ أَنْ أَبَانَهَا بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ عَلَى زَعْمِهِ فِي بَقَاءِ عِصْمَتِهِ فَإِنَّهُ لَا غُرْمَ لِتَقْصِيرِهِ بِالْبَيْنُونَةِ بِاخْتِيَارِهِ‏.‏ الثَّالِثَةُ إذَا لَمْ يَرْجِعُوا إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُمْ لَا يَغْرَمُونَ لِوَرَثَتِهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُضْعِهِ وَلَا حَيْلُولَةَ هُنَا‏.‏ الرَّابِعَةُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قِنًّا فَلَا غُرْمَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا لِمَالِكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِزَوْجَةِ عَبْدِهِ، فَلَوْ كَانَ مُبَعَّضًا غَرِمَ لَهُ الْمَشْهُودُ بِقِسْطِ الْحُرِّيَّةِ قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ا هـ‏.‏

وَالظَّاهِرُ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إلْحَاقُ ذَلِكَ بِالْإِكْسَابِ فَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ كُلُّهُ فِيمَا إذَا كَانَ قِنًّا وَبَعْضُهُ فِيمَا إذَا كَانَ مُبَعَّضًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبُضْعِ نَشَأَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ،‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى مَجْنُونٍ أَوْ غَائِبٍ فَالْأَرْجَحُ أَنَّ لِوَلِيِّهِ أَوْ وَكِيلِهِ تَغْرِيمَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إنْكَارٌ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ شَهِدَا بِطَلَاقٍ وَفَرَّقَ فَرَجَعَا فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ فَلَا غُرْمَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏شَهِدَا بِطَلَاقٍ‏)‏ بَائِنٍ ‏(‏وَفَرَّقَ‏)‏ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا أَوْ لَمْ يُفَرِّقْ كَمَا فُهِمَ بِالْأُولَى ‏(‏فَرَجَعَا‏)‏ عَنْ شَهَادَتِهِمَا ‏(‏فَقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا رَضَاعٌ‏)‏ مُحَرَّمٌ أَوْ نَحْوُهُ كَلِعَانٍ أَوْ فَسْخٍ ‏(‏فَلَا غُرْمَ‏)‏ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَمْ تُفَوِّتْ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا، وَلَوْ غَرِمَا قَبْلَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ شَيْئًا اسْتَرَدَّا مَا غَرِمَاهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ رَجَعَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِالِاسْتِرْدَادِ يَنْبَغِي أَنْ تَغْرَمَ مَا اسْتَرَدَّ؛ لِأَنَّهَا فَوَّتَتْ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَخَذَهُ وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ مَالٍ غَرِمُوا فِي الْأَظْهَرِ، وَمَتَى رَجَعُوا كُلُّهُمْ وُزِّعَ عَلَيْهِمْ الْغُرْمُ، أَوْ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ نِصَابٌ فَلَا غُرْمَ، وَقِيلَ يَغْرَمُ قِسْطَهُ، وَإِنْ نَقَصَ النِّصَابُ وَلَمْ يَزِدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فَقِسْطٌ، وَإِنْ زَادَ فَقِسْطٌ مِنْ النِّصَابِ، وَقِيلَ مِنْ الْعَدَدِ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَعَلَيْهِ نِصْفٌ وَهُمَا نِصْفٌ أَوْ وَأَرْبَعٌ فِي رَضَاعٍ فَعَلَيْهِ ثُلُثٌ وَهُنَّ ثُلُثَانِ، فَإِنْ رَجَعَ هُوَ أَوْ ثِنْتَانِ فَلَا غُرْمَ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏رَجَعَ شُهُودُ مَالٍ‏)‏ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهِ وَدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ ‏(‏غَرِمُوا‏)‏ بَدَلَهُ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ ‏(‏فِي الْأَظْهَرِ‏)‏ وَإِنْ قَالُوا‏:‏ أَخْطَأْنَا لِحُصُولِ الْحَيْلُولَةِ بِشَهَادَتِهِمْ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْيَدِ أَوْ الْإِتْلَافِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ صَدَّقَهُمْ الْخَصْمُ فِي الرُّجُوعِ عَادَتْ الْعَيْنُ إلَى مَنْ اُنْتُزِعَتْ مِنْهُ وَلَا غُرْمَ ‏(‏وَمَتَى رَجَعُوا كُلُّهُمْ‏)‏ مَعًا أَوْ مُرَتَّبًا سَوَاءٌ أَكَانُوا أَقَلَّ الْحُجَّةِ أَوْ زَادُوا عَلَيْهِ كَخَمْسَةٍ فِي الزِّنَا وَثَلَاثَةٍ فِي الْقَتْلِ ‏(‏وُزِّعَ عَلَيْهِمْ الْغُرْمُ‏)‏ بِالسَّوِيَّةِ عِنْدَ اتِّحَادِ نَوْعِهِمْ ‏(‏أَوْ‏)‏ رَجَعَ ‏(‏بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏نِصَابٌ‏)‏ كَأَنْ رَجَعَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَاحِدٌ فِيمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَالْعِتْقِ ‏(‏فَلَا غُرْمَ‏)‏ عَلَى مَنْ رَجَعَ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ فَكَأَنَّ الرَّاجِعَ لَمْ يَشْهَدْ ‏(‏وَقِيلَ‏:‏ يَغْرَمُ‏)‏ الرَّاجِعُ ‏(‏قِسْطَهُ‏)‏ مِنْ النِّصَابِ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْجَمِيعِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ قَدْ فَوَّتَ قِسْطًا فَيَغْرَمُ مَا فَوَّتَ ‏(‏وَإِنْ نَقَصَ النِّصَابُ‏)‏ بَعْدَ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ ‏(‏وَلَمْ يَزِدْ الشُّهُودُ عَلَيْهِ‏)‏ أَيْ النِّصَابِ كَأَنْ شَهِدَ فِي الزِّنَا أَرْبَعَةٌ، وَفِي مَالٍ أَوْ قَتْلِ اثْنَانِ ‏(‏فَقِسْطٌ‏)‏ يَلْزَمُ الرَّاجِعَ مِنْهُمْ، فَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ النِّصْفُ، أَوْ أَرْبَعَةٌ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِمْ لَزِمَ الرَّاجِعَ بِقِسْطِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَعَلَيْهِ الرُّبْعُ ‏(‏وَإِنْ زَادَ‏)‏ عَدَدُ الشُّهُودِ عَلَى النِّصَابِ، كَمَا إذْ رَجَعَ مِنْ الْخَمْسَةِ فِي الزِّنَا اثْنَانِ أَوْ مِنْ الثَّلَاثَةِ فِي غَيْرِهِ اثْنَانِ ‏(‏فَقِسْطٌ مِنْ النِّصَابِ‏)‏ فِي الْأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا غُرْمَ إذَا بَقِيَ نِصَابٌ فَيَجِبُ النِّصْفُ عَلَى الرَّاجِعِينَ مِنْ الثَّلَاثَةِ لِبَقَاءِ نِصْفِ الْحُجَّةِ ‏(‏وَقِيلَ‏)‏ قِسْطٌ ‏(‏مِنْ الْعَدَدِ‏)‏ يَغْرَمُهُ الرَّاجِعُ مِنْهُمْ فَيَجِبُ الثُّلُثَانِ عَلَى الرَّاجِعِينَ مِنْ الثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إذَا نُقِصَ عَدَدُهَا زَالَ حُكْمُهَا وَصَارَ الضَّمَانُ مُتَعَلِّقًا بِالْإِتْلَافِ وَقَدْ اسْتَوَوْا فِيهِ ‏(‏وَإِنْ‏)‏ ‏(‏شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ‏)‏ فِيمَا يَثْبُتُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا ‏(‏فَعَلَيْهِ نِصْفٌ وَهُمَا نِصْفٌ‏)‏ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ رُبْعٌ؛ لِأَنَّهُمَا كَرَجُلٍ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الْخُنْثَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُسْلِمِ ‏(‏أَوْ‏)‏ شَهِدَ رَجُلٌ ‏(‏وَأَرْبَعٌ‏)‏ مِنْ نِسَاءٍ ‏(‏فِي رَضَاعٍ‏)‏ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَثْبُتُ بِمَحْضِ الْإِنَاثِ ثُمَّ رَجَعُوا ‏(‏فَعَلَيْهِ ثُلُثٌ، وَهُنَّ ثُلُثَانِ‏)‏ وَتَنْزِلُ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَنْزِلَةَ رَجُلٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ يَنْفَرِدُ بِهَا النِّسَاءُ فَلَا يَتَعَيَّنُ الرَّجُلُ لِلشَّطْرِ ‏(‏فَإِنْ رَجَعَ هُوَ أَوْ ثِنْتَانِ‏)‏ فَقَطْ ‏(‏فَلَا غُرْمَ‏)‏ عَلَى مَنْ رَجَعَ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِمَا الثُّلُثُ كَمَا لَوْ رَجَعَ الْجَمِيعُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ شَهِدَ مَعَ عَشْرَةِ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا غَرِمَ السُّدُسَ، وَعَلَى كُلِّ ثِنْتَيْنِ السُّدُسُ، فَإِنْ رَجَعَ مِنْهُنَّ ثَمَانٍ أَوْ هُوَ وَلَوْ مَعَ سِتٍّ فَلَا غُرْمَ عَلَى الرَّاجِحِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ رَجَعَ مَعَ سَبْعَةٍ غَرِمُوا الرُّبُعَ لِبُطْلَانِ رُبُعِ الْحُجَّةِ، وَإِنْ رَجَعَ كُلُّهُنَّ دُونَهُ أَوْ رَجَعَ هُوَ مَعَ ثَمَانٍ غَرِمُوا النِّصْفَ لِبَقَاءِ نِصْفِ الْحُجَّةِ فِيهِمَا، أَوْ مَعَ تِسْعٍ غَرِمُوا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ، وَإِنْ رَجَعَ كُلُّهُنَّ دُونَهُ غَرِمُوا نِصْفًا لِمَا مَرَّ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ شَهِدَ هُوَ وَأَرْبَعٌ بِمَالٍ فَقِيلَ كَرَضَاعٍ، وَالْأَصَحُّ هُوَ نِصْفٌ وَهُنَّ نِصْفٌ، سَوَاءٌ رَجَعْنَ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُنَّ، وَإِنْ رَجَعَ ثِنْتَانِ فَالْأَصَحُّ لَا غُرْمَ، وَأَنَّ شُهُودَ إحْصَانٍ أَوْ صِفَةٍ مَعَ شُهُودِ تَعْلِيقِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ لَا يَغْرَمُونَ شَيْئًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ‏)‏ ‏(‏شَهِدَ هُوَ وَ‏)‏ نِسَاءٌ ‏(‏أَرْبَعٌ بِمَالٍ‏)‏ ثُمَّ رَجَعُوا ‏(‏فَقِيلَ كَرَضَاعٍ‏)‏ فَعَلَيْهِ ثُلُثُ الْغُرْمِ وَعَلَيْهِنَّ ثُلُثَاهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ يُوهِمُ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا غُرْمَ عَلَيْهِ كَالرَّضَاعِ وَلَا قَائِلَ بِهِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَثْبُتُ بِالنِّسْوَةِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ تَشْبِيهُهُ بِالرَّضَاعِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ رُجُوعِ الْكُلِّ، فَعَلَيْهِ ثُلُثٌ وَهُنَّ ثُلُثٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ‏(‏وَالْأَصَحُّ، هُوَ نِصْفٌ وَهُنَّ نِصْفٌ‏)‏؛ لِأَنَّهُ نِصْفُ الْبَيِّنَةِ، وَهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ مَعَ الرَّجُلِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ ‏(‏سَوَاءٌ رَجَعْنَ مَعَهُ أَوْ وَحْدَهُنَّ‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ الْمُتَمَحِّضَاتِ وَإِنْ كَثُرْنَ بِخِلَافِ الرَّضَاعِ يُنَافِيه ‏(‏وَإِنْ رَجَعَ ثِنْتَانِ‏)‏ مِنْهُنَّ فَقَطْ ‏(‏فَالْأَصَحُّ لَا غُرْمَ‏)‏ عَلَيْهِمَا لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ عَلَيْهِمَا رُبُعُ الْغُرْمِ؛ لِأَنَّهُمَا رُبُعُ الْبَيِّنَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا‏.‏ قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ‏:‏ لَا شَيْءَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى الرَّجُلَيْنِ الْغُرْمُ، وَقَالَ هُنَا‏:‏ يَجِبُ عَلَيْهَا الْخُمْسُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ ‏(‏أَنَّ شُهُودَ إحْصَانٍ‏)‏ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ رَجْمِ الْقَاضِي الزَّانِيَ دُونَ شُهُودِ الزِّنَا كَمَا صَوَّرَهَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ، أَوْ مَعَهُمَا كَمَا شَمِلَهُ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ جَارٍ فِي ذَلِكَ ‏(‏أَوْ‏)‏ شُهُودَ ‏(‏صِفَةٍ مَعَ شُهُودِ تَعْلِيقِ طَلَاقٍ، أَوْ عِتْقٍ‏)‏ عَلَى صِفَةٍ عَلَيْهَا إذَا رَجَعُوا بَعْدَ نُفُوذِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ دُونَ شُهُودِ التَّعْلِيقِ ‏(‏لَا يَغْرَمُونَ شَيْئًا‏)‏‏.‏ أَمَّا شُهُودُ الْإِحْصَانِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِمُوجَبِ عُقُوبَةٍ، وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِصِفَةِ كَمَالٍ‏.‏ وَأَمَّا شُهُودُ الصِّفَةِ مَعَ شُهُودِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بِطَلَاقٍ وَلَا عِتْقٍ، وَإِنَّمَا أَثْبَتُوا صِفَةً‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ يَغْرَمُونَ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ جَمِيعًا، فَالْقَتْلُ لَمْ يُسْتَوْفَ إلَّا بِهِمْ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ وَقَعَ بِقَوْلِهِمْ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ‏:‏ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، وَقَدْ صَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْجُرْجَانِيُّ ا هـ‏.‏

وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إنَّهُ أَرْجَحُ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ مَرَّ أَنَّ الْمُزَكِّيَ يَغْرَمُ، فَهَلَّا كَانَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ وَالصِّفَةِ كَذَلِكَ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُزَكِّيَ مُعِينٌ لِلشَّاهِدِ الْمُتَسَبِّبِ فِي الْقَتْلِ وَمَقُولِهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ فِي الْإِحْصَانِ أَوْ الصِّفَةِ‏.‏ وَإِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْنِ فَبَانَا مَرْدُودَيْ الشَّهَادَةِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ حُكْمَهُ يَبِينُ بُطْلَانُهُ فَتَعُودُ الْمُطَلَّقَةُ بِشَهَادَتِهِمْ زَوْجَةً، وَالْمُعْتَقَةُ بِهَا أَمَةً، فَإِنْ اُسْتُوْفِيَ بِهَا قَتْلٌ أَوْ قَطْعٌ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاضِي الضَّمَانُ، وَلَوْ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مَالًا تَالِفًا ضَمِنَهُ الْمَحْكُومُ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا أَوْ غَائِبًا غَرِمَ الْقَاضِي لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ إذَا أَيْسَرَ أَوْ حَضَرَ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ، وَلَا عَلَى الْمُزَكِّي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ تَابِعُونَ لِلشُّهُودِ‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏

لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِكِتَابَةِ رَقِيقٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَعَتَقَ بِالْأَدَاءِ ظَاهِرًا هَلْ يَغْرَمَانِ الْقِيمَةَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ لِسَيِّدِهِ أَوْ نَقْصَ النُّجُومِ عَنْهَا لِأَنَّهُ الْفَائِتُ‏؟‏‏.‏ وَجْهَانِ أَشْبَهُهُمَا كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ الثَّانِي، أَوْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ، أَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ بِأَلْفٍ وَمَهْرُهَا أَوْ قِيمَتُهَا أَلْفَانِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ غَرِمَا أَلْفًا، وَقِيلَ‏:‏ يَغْرَمُونَ مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ، أَوْ شَهِدَا بِإِيلَادٍ أَوْ تَدْبِيرٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ غَرِمَا الْقِيمَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ، لَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَزُولُ بَعْدَهُ، أَوْ شَهِدَا بِتَعْلِيقِ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ بِصِفَةٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ غَرِمَا الْمَهْرَ أَوْ الْقِيمَةَ بَعْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ لَا قَبْلَهُ لِمَا مَرَّ، أَوْ شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَلْفٍ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْحُكْمِ غَرِمَا لَهَا مَا نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا إنْ كَانَ الْأَلْفُ دُونَهُ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي، وَقِيلَ‏:‏ لَا يَغْرَمَانِ شَيْئًا وَرَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيُّ‏.‏ وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِعَقْدِ نِكَاحٍ فِي وَقْتٍ وَاثْنَانِ بِالْوَطْءِ فِي وَقْتٍ بَعْدَهُ وَاثْنَانِ بِالتَّعْلِيقِ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَجَعَ كُلٌّ عَمَّا شَهِدَ بِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ غَرِمَ مَنْ شَهِدَ بِالْعَقْدِ وَالْوَطْءِ مَا غَرِمَهُ الزَّوْجُ بِالسَّوِيَّةِ بَيْنَهُمْ نِصْفٌ بِالْعَقْدِ وَنِصْفٌ بِالْوَطْءِ، وَلَا يَغْرَمُ مَنْ شَهِدَ بِالتَّعْلِيقِ شَيْئًا، وَلَا مَنْ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ بِالْوَطْءِ‏.‏ وَلَوْ رَجَعَ فُرُوعٌ أَوْ أُصُولٌ عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ غَرِمُوا وَإِنْ رَجَعُوا كُلُّهُمْ فَالْغَارِمُ الْفَرْعُ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ إشْهَادَ الْأُصُولِ وَيَقُولُونَ‏:‏ كَذَبْنَا فِيمَا قُلْنَا وَالْحُكْمُ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ‏.‏ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَخْصٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ فَرَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ مِائَةٍ وَآخَرُ عَنْ مِائَتَيْنِ، وَالثَّالِثُ عَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَالرَّابِعُ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ، فَالرُّجُوعُ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ حُجَّةٌ عَنْ مِائَتَيْنِ دُونَ الْمِائَتَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِبَقَاءِ الْحُجَّةِ فِيهِمَا، فَمِائَةٌ يَغْرَمُهَا الْأَرْبَعَةُ بِاتِّفَاقِهِمْ، قَالَ الشَّيْخَانِ‏:‏ وَثَلَاثَةُ أَرْبَعِمِائَةٍ يَغْرَمُهَا غَيْرُ الْأَوَّلِ بِالسَّوِيَّةِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، وَالرُّبُعُ الْآخَرُ لَا غُرْمَ فِيهِ لِبَقَاءِ رُبُعِ الْحُجَّةِ‏.‏ وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ الصَّحِيحُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ إنَّمَا يَغْرَمُونَ نِصْفَ الْمِائَةِ، وَمَا ذُكِرَ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى الضَّعِيفِ الْقَائِلِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَغْرَمُ حِصَّتَهُ مِمَّا رَجَعَ عَنْهُ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ وَعَلَيْهِ النِّصْفُ الْآخَرُ لَا غُرْمَ فِيهِ، وَيَغْرَمُ مُتَعَمِّدٌ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ بِاعْتِرَافِهِ إذَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ وَإِلَّا دَخَلَ التَّعْزِيرُ فِيهِ إنْ اُقْتُصَّ مِنْهُ، أَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ‏.‏ وَلَوْ اسْتَوْفَى الْمَشْهُودُ لَهُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ مَالًا ثُمَّ وَهَبَهُ لِلْخَصْمِ، أَوْ شَهِدَا بِإِقَالَةٍ مِنْ عَقْدٍ وَحُكِمَ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ عَادَ إلَيْهِ مَا غَرِمَهُ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ الشَّاهِدُ إنْ رَجَعْنَا، وَلَكِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِرُجُوعِهِمَا لَمْ يَغْرَمَا شَيْئًا‏.‏ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ لِأَنَّ الْحَقَّ بَاقٍ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ‏.‏

كِتَابُ الدَّعْوَى‏.‏

المتن‏:‏

وَالْبَيِّنَاتُ تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى عِنْدَ قَاضٍ فِي عُقُوبَةٍ كَقِصَاصٍ وَقَذْفٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

كِتَابُ الدَّعْوَى‏.‏ هِيَ لُغَةً الطَّلَبُ وَالتَّمَنِّي وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ‏}‏ وَأَلِفُهَا لِلتَّأْنِيثِ، وَتُجْمَعُ عَلَى دَعَاوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا‏.‏ قِيلَ سُمِّيَتْ دَعْوَى؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي يَدْعُو صَاحِبَهُ إلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ لِيَخْرُجَ مِنْ دَعْوَاهُ‏.‏ وَشَرْعًا إخْبَارٌ عَنْ وُجُوبِ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهَا عِنْدَ حَاكِمٍ ‏(‏وَالْبَيِّنَاتُ‏)‏ جَمْعُ بَيِّنَةٍ وَهُمْ الشُّهُودُ، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِهِمْ يَتَبَيَّنُ الْحَقُّ، وَأَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ الدَّعْوَى وَجَمَعَ الْبَيِّنَاتِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدَّعْوَى وَاحِدَةٌ وَالْبَيِّنَاتُ مُخْتَلِفَةٌ‏.‏ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ‏}‏ وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ مُسْلِمٍ ‏{‏لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ‏}‏ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ‏{‏وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ‏}‏ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي ضَعِيفٌ لِدَعْوَاهُ خِلَافَ الْأَصْلِ فَكُلِّفَ الْحُجَّةَ الْقَوِيَّةَ، وَجَانِبُ الْمُنْكِرِ قَوِيٌّ فَاكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ قَوِيَّةٌ وَالْيَمِينُ ضَعِيفَةٌ؛؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ مُتَّهَمٌ فِي يَمِينِهِ بِالْكَذِبِ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ‏.‏ وَلَمَّا كَانَتْ الْخُصُومَاتُ تَدُورُ عَلَى خَمْسَةٍ‏:‏ الدَّعْوَى، وَالْجَوَابِ، وَالْيَمِينِ، وَالنُّكُولِ، وَالْبَيِّنَةِ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ كَذَلِكَ وَبَدَأَ مِنْهَا بِالْأُولَى‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تُشْتَرَطُ الدَّعْوَى عِنْدَ قَاضٍ‏)‏ ‏(‏فِي عُقُوبَةٍ كَقِصَاصٍ، وَ‏)‏ حَدِّ ‏(‏قَذْفٍ‏)‏ فَلَا يَسْتَقِلُّ صَاحِبُهَا بِاسْتِيفَائِهَا لِعِظَمِ خَطَرِهَا وَالِاحْتِيَاطِ فِي إثْبَاتِهَا وَاسْتِيفَائِهَا، فَلَوْ خَالَفَ وَاسْتَوْفَى بِدُونِ ذَلِكَ وَقَعَ الْمَوْقِعَ فِي الْقِصَاصِ دُونَ حَدِّ الْقَذْفِ كَمَا سَبَقَ لِلْمُصَنَّفِ فِي بَابِهِ، نَعَمْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ مَنْ وَجَبَ لَهُ تَعْزِيرٌ أَوْ حَدُّ قَذْفٍ وَكَانَ فِي بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ السُّلْطَانِ كَانَ لَهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ‏:‏ لَوْ انْفَرَدَ بِحَيْثُ لَا يُرَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْقَوَدِ، لَا سِيَّمَا إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ عِنْدَ قَاضٍ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلَى السَّيِّدُ يَسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى رَقِيقِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا وَكَذَلِكَ الْمُحَكَّمُ إذَا رَضِيَا بِحُكْمِهِ، وَكَذَا الْوَزِيرُ وَالْأَمِيرُ وَنَحْوُهُمَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا كَمَا مَرَّ فِي بَابِهَا، وَتَقْيِيدُهُ بِالْعُقُوبَةِ قَدْ يُفْهِمُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي فِي غَيْرِهَا وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ لَا بُدَّ فِي كُلِّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ كَعُيُوبِ النِّكَاحِ وَالْعُنَّةِ وَالْفَسْخِ بِالْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَى الْإِثْبَاتِ وَالْحُكْمِ فِيهَا مِنْ الرَّفْعِ إلَى الْقَاضِي وَالدَّعْوَى عِنْدَهُ مَا خَرَجَ الْمَالُ عَنْ هَذَا إلَّا لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ قَدْ يَسْتَقِلُّ بِالْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَى‏.‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي صُورَتَانِ‏:‏ إحْدَاهُمَا‏:‏ قَتْلُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَوْ قَذْفُهُ، إذْ الْحَقُّ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ بِشَهَادَةِ الْحِسْبَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَعْوَى حِسْبَةٍ بَلْ فِي سَمَاعِهَا خِلَافٌ مَرَّ‏.‏ ثَانِيَتُهُمَا‏:‏ قَتْلُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ الَّذِي لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ دَعْوَى؛؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَفَّقُ عَلَى طَلَبٍ، وَتَمْثِيلُهُ بِالْقِصَاصِ وَالْقَصْدِ يُفْهِمُ التَّصْوِيرَ بِحَقِّ الْآدَمِيِّ وَأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْقَاضِي أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ فِيهَا الدَّعْوَى أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ حَقًّا لِلْمُدَّعِي، وَمَنْ لَهُ الْحَقُّ لَمْ يَأْذَنْ فِي الطَّلَبِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِعْرَاضِ وَالدَّفْعِ مَا أَمْكَنَ‏.‏ نَعَمْ لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا وَأَرَادَ الْقَاذِفُ تَحْلِيفَهُ أَوْ تَحْلِيفَ وَارِثِهِ الطَّالِبِ أَنَّهُ لَمْ يَزْنِ فَإِنَّهُ يُجَابُ إلَى ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ، قَالُوا‏:‏ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى بِذَلِكَ وَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِهِ إلَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ‏.‏ قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ اللِّعَانِ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ اسْتَحَقَّ عَيْنًا فَلَهُ أَخْذُهَا إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً وَإِلَّا وَجَبَ الرَّفْعُ إلَى قَاضٍ، أَوْ دَيْنًا عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنْ الْأَدَاءِ طَالَبَهُ بِهِ، وَلَا يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ لَهُ، أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ أَخَذَ جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ وَكَذَا غَيْرُ جِنْسِهِ إنْ فَقَدَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، أَوْ عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ، أَوْ مُنْكِرٍ وَلَهُ بَيِّنَةٌ فَكَذَلِكَ‏.‏ وَقِيلَ يَجِبُ الرَّفْعُ إلَى قَاضٍ، وَإِذَا جَازَ الْأَخْذُ فَلَهُ كَسْرُ بَابٍ وَنَقْبُ جِدَارٍ لَا يَصِلُ الْمَالَ إلَّا بِهِ، ثُمَّ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِهِ يَتَمَلَّكُهُ وَمِنْ غَيْرِهِ يَبِيعُهُ، وَقِيلَ يَجِبُ رَفْعُهُ إلَى قَاضٍ يَبِيعُهُ وَالْمَأْخُوذُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ فَيَضْمَنُهُ إنْ تَلِفَ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ، وَلَا يَأْخُذُ فَوْقَ حَقِّهِ إنْ أَمْكَنَهُ الِاقْتِصَارُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِنْ‏)‏ ‏(‏اسْتَحَقَّ‏)‏ شَخْصٌ ‏(‏عَيْنًا‏)‏ تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ ‏(‏فَلَهُ‏)‏ أَوْ وَلِيِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ‏(‏أَخْذُهَا‏)‏ مُسْتَقِلًّا بِالْأَخْذِ بِلَا رَفْعٍ لِقَاضٍ وَبِلَا عِلْمِ مَنْ هِيَ تَحْتَ يَدِهِ لِلضَّرُورَةِ ‏(‏إنْ لَمْ يَخَفْ‏)‏ مِنْ أَخْذِهَا ‏(‏فِتْنَةً‏)‏ أَوْ ضَرَرًا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ اسْتَحَقَّ عَيْنًا يُخْرِجُ الْمُسْتَأْجِرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى عِبَارَاتِهِمْ إذْ الِاسْتِقْلَالُ بِالْأَخْذِ لِمَالِكِ الْعَيْنِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَيْنَ حَقِيقَةً، وَأُلْحِقَ بِهِ وَلِيُّ غَيْرِ الْكَامِلِ كَمَا مَرَّ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ كَمَا قَدَّرْتُهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَوْ عَيْنًا غُصِبَتْ مِنْهُ، وَكَذَا قَالَهُ فِي الْبَسِيطِ أَمَّا لَوْ كَانَتْ بِيَدِ مَنْ ائْتَمَنَهُ كَالْوَدِيعَةِ أَوْ الَّتِي اشْتَرَاهَا مِنْهُ وَبَذَلَ الثَّمَنَ فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِغَيْرِ إذْنٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِرْعَابِ بِظَنِّ الذَّهَابِ بَلْ سَبِيلُهُ الطَّلَبُ ‏(‏وَإِلَّا‏)‏ بِأَنْ خَافَ فِتْنَةً أَوْ ضَرَرًا ‏(‏وَجَبَ الرَّفْعُ إلَى قَاضٍ‏)‏ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّنْ لَهُ إلْزَامُ الْحُقُوقِ كَمُحْتَسِبٍ وَأَمِيرٍ، لَا سِيَّمَا إنْ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا عِنْدَهُ، وَالرَّفْعُ تَقْرِيبُ الشَّيْءِ فَمَعْنَى رَفْعِ الشَّيْءِ لِقَاضٍ قُرْبُهُ إلَيْهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ تَكْلِيفُ الْمُدَّعِي الرَّفْعَ حَتَّى يَأْثَمَ بِتَرْكِهِ، بَلْ الْمُرَادُ امْتِنَاعُ اسْتِقْلَالِهِ بِالْأَخْذِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ‏:‏ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ الرَّفْعِ إلَى الْقَاضِي وَهِيَ أَحْسَنُ ‏(‏أَوْ‏)‏ لَمْ يَسْتَحِقَّ عَيْنًا بَلْ ‏(‏دَيْنًا‏)‏ حَالًّا ‏(‏عَلَى غَيْرِ مُمْتَنِعٍ مِنْ الْأَدَاءِ‏)‏ لَهُ ‏(‏طَالَبَهُ بِهِ‏)‏ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ ‏(‏وَلَا يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ لَهُ‏)‏ أَيْ الْمَدِينِ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الدَّفْعِ مِنْ أَيِّ مَالٍ شَاءَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ إسْقَاطُ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ إجْبَارًا، فَإِنْ أَخَذَهُ لَمْ يَمْلِكْهُ وَلَزِمَهُ رَدُّهُ، فَإِنْ تَلِفَ عِنْدَهُ ضَمِنَهُ‏.‏ فَإِذَا اتَّفَقَ الْحَقَّانِ جَاءَ التَّقَاصُّ ‏(‏أَوْ‏)‏ دَيْنًا اسْتَحَقَّهُ ‏(‏عَلَى مُنْكِرٍ‏)‏ لَهُ ‏(‏وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ‏)‏ بِهِ ‏(‏أَخَذَ‏)‏ جَوَازًا ‏(‏جِنْسَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ‏)‏ إنْ ظَفِرَ بِهِ اسْتِقْلَالًا لِعَجْزِهِ عَنْ أَخْذِهِ إلَّا كَذَلِكَ ‏(‏وَكَذَا غَيْرُ جِنْسِهِ إنْ فَقَدَهُ‏)‏ أَيْ جِنْسَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْهُ ‏(‏عَلَى الْمَذْهَبِ‏)‏ لِلضَّرُورَةِ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْ تَمَلُّكِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَيَّدَ الْمُتَوَلِّي الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ، فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ يَعْدِلْ إلَى غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ تَقْدِيمُ أَخْذِ غَيْرِ الْأَمَةِ عَلَيْهَا احْتِيَاطًا لِلْأَبْضَاعِ، وَلَوْ كَانَ الْمَدِينُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ أَوْ مَيِّتًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَلَا يَأْخُذُ إلَّا قَدْرَ حِصَّتِهِ بِالْمُضَارَبَةِ إنْ عَلِمَهَا كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ، ‏(‏أَوْ‏)‏ دَيْنًا اسْتَحَقَّهُ ‏(‏عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ أَوْ مُنْكِرٍ، وَلَهُ‏)‏ عَلَيْهِ ‏(‏بَيِّنَةٌ فَكَذَلِكَ‏)‏ يَأْخُذُ حَقَّهُ اسْتِقْلَالًا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الدَّيْنِ إنْ وَجَدَهُ، وَمِنْ غَيْرِهِ إنْ فَقَدَهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الصُّورَتَيْنِ ‏(‏وَقِيلَ يَجِبُ‏)‏ فِيهِمَا ‏(‏الرَّفْعُ إلَى قَاضٍ‏)‏ كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ تَخْلِيصُ الْحَقِّ بِالْمُطَالَبَةِ وَالتَّقَاضِي‏.‏ وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ مُؤْنَةً وَمَشَقَّةً وَتَضْيِيعَ زَمَانٍ‏.‏ هَذَا كُلُّهُ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ‏.‏ أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ، إذَا امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ أَدَائِهَا وَظَفِرَ الْمُسْتَحِقُّ بِجِنْسِهَا مِنْ مَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ، وَغَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْفُقَرَاءُ أَوْ لَا إلْحَاقًا لَهَا بِالدُّيُونِ، وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَالظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهَا كَالْعَيْنِ إنْ وَرَدَتْ عَلَى عَيْنٍ فَلَهُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهَا بِنَفْسِهِ إنْ لَمْ يَخْشَ ضَرَرًا وَكَالدَّيْنِ إنْ وَرَدَتْ عَلَى ذِمَّةٍ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى تَخْلِيصِهَا بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ ‏(‏وَإِذَا جَازَ‏)‏ لِلْمُسْتَحِقِّ ‏(‏الْأَخْذُ‏)‏ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ لِقَاضٍ ‏(‏فَلَهُ‏)‏ حِينَئِذٍ ‏(‏كَسْرُ بَابٍ وَنَقْبُ جِدَارٍ لَا يَصِلُ الْمَالَ‏)‏ هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَصِلُ إلَى الْمَالِ ‏(‏إلَّا بِهِ‏)‏؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ شَيْئًا اسْتَحَقَّ الْوُصُولَ إلَيْهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا فَوَّتَهُ كَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ الصَّائِلِ إلَّا بِإِتْلَافِ مَالٍ فَأَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ إذَا كَانَ الْحِرْزُ لِلدَّيْنِ وَغَيْرُ مَرْهُونٍ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِفَلَسٍ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ سَائِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَإِجَارَةٍ وَوَصِيَّةٍ بِمَنْفَعَةٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلَا فِي جِدَارِ غَرِيمِ الْغَرِيمِ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ قَطْعًا أَيْ لِأَنَّهُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْغَرِيمِ، وَلَا أَنْ يُوَكِّلَ فِي الْكَسْرِ وَالنَّقْبِ غَيْرَهُ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي؛ فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا يَصِلُ الْمَالَ إلَّا بِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِرًّا مُمْتَنِعًا أَمْ مُنْكِرًا وَلَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ‏:‏ كُنْتُ أَوَدُّ أَنْ لَوْ خُصِّصَ ذَلِكَ بِمَا إذَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْأَخْذِ بِالْحَاكِمِ كَمَا فِي صُورَةِ الْجُحُودِ وَعَدَمِ الْبَيِّنَةِ‏.‏ أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ وَقَدَرَ عَلَى خَلَاصِ حَقِّهِ بِحَاكِمٍ، فَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْحَاكِمِ عِنْدَ الْمُكْنَةِ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ كُلْفَةً مِنْ نَقْبِ الْجِدَارِ وَكَسْرِ الْبَابِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الصَّائِلَ يَدْفَعُ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ا هـ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

لَوْ غَصَبَ مِنْهُ نَجَاسَةً يَخْتَصُّ بِهَا كَجِلْدِ مَيْتَةٍ وَسِرْجِينٍ وَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ وَجَحَدَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَكْسِرُ بَابًا وَلَا يَنْقُبُ جِدَارًا؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِيرِيُّ ‏(‏ثُمَّ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِهِ‏)‏ إلَى الْحَقِّ ‏(‏يَتَمَلَّكُهُ‏)‏ بَدَلًا عَنْ حَقِّهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

التَّعْبِيرُ بِالتَّمَلُّكِ وَقَعَ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إحْدَاثِ تَمَلُّكٍ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالْبَغَوِيُّ، وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ غَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ، وَاعْتَمَدَهُ الْإِسْنَوِيُّ وَوَجَّهَهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ يَقْصِدُ أَخْذَ حَقِّهِ، وَإِذَا وُجِدَ الْقَصْدُ مُقَارِنًا كَفَى وَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ا هـ‏.‏

وَجَمَعَ شَيْخُنَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِأَنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ أَيْ أَوْ دُونَهُ كَأَخْذِ الدَّرَاهِمِ الْمُكَسَّرَةِ عَنْ الصَّحِيحَةِ، وَكَلَامُ الشَّيْخَيْنِ عَلَى مَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ صِفَتِهِ، أَيْ كَأَخْذِ الدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ عَنْ الْمُنْكَسِرَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَغَيْرِ الْجِنْسِ وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ ‏(‏وَ‏)‏ الْمَأْخُوذُ ‏(‏مِنْ غَيْرِهِ‏)‏ أَيْ جِنْسِ حَقِّهِ أَيْ أَوْ أَعْلَى مِنْ صِفَتِهِ ‏(‏يَبِيعُهُ‏)‏ بِنَفْسِهِ مُسْتَقِلًّا لِلْحَاجَةِ، وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ فِي آخَرِ الطَّلَاقِ ‏(‏وَقِيلَ يَجِبُ رَفْعُهُ إلَى قَاضٍ يَبِيعُهُ‏)‏؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطَّلِعْ الْقَاضِي عَلَى الْحَالِ، فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَمْ يَبِعْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ جَزْمًا، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَإِلَّا فَلَا يَسْتَقِلُّ مَعَ وُجُودِهَا كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَبَحَثَهُ بَعْضُهُمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ بَلْ هِيَ أَوْلَى مِنْ عِلْمِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِعِلْمِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِخِلَافِهَا، وَخَصَّ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ بِهِ بِبَيْعِهِ لِلْغَيْرِ‏.‏ أَمَّا لَوْ أَرَادَ بَيْعَهُ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعًا، وَلِأَنَّهُ لِأَجْلِ امْتِنَاعِ تَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَلَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يُسَلِّطُهُ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا يُسَلِّطُهُ عَلَى الْأَخْذِ؛ فَإِذَا بَاعَهُ فَيَبِعْهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ‏.‏ ثُمَّ يَشْتَرِي بِهِ جِنْسَ حَقِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ نَقْدُ الْبَلَدِ ‏(‏وَالْمَأْخُوذُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ‏)‏ أَيْ الْآخِذِ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ فَيَضْمَنُهُ إنْ تَلِفَ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ‏)‏ بِالْأَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ حِينِ أَخْذِهِ إلَى حِينِ تَلَفِهِ كَالْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ الْمُسْتَامِ لِعَدَمِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَلِأَنَّ الْمُضْطَرَّ إذَا أَخَذَ ثَوْبَ غَيْرِهِ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ ضَمِنَهُ فَكَذَا هُنَا، وَالثَّانِي لَا يَضْمَنُهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِلتَّوَثُّقِ، وَالتَّوَصُّلُ إلَى الْحَقِّ كَالْمُرْتَهِنِ، وَإِذْنُ الشَّارِعِ فِي الْأَخْذِ يَقُومُ مَقَامَ إذْنِ الْمَالِكِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ إلَى بَيْعِ مَا أَخَذَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ قَصَّرَ فَنَقَصَتْ ضَمِنَ النُّقْصَانَ، وَلَوْ انْخَفَضَتْ الْقِيمَةُ وَارْتَفَعَتْ وَتَلِفَ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَكْثَرِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ إذَا تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْبَيْعِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ قَطْعًا، وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ مَحَلُّهُ فِي غَيْرِ الْجِنْسِ‏.‏ أَمَّا الْمَأْخُوذُ مِنْ الْجِنْسِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ يَدٍ قَطْعًا لِحُصُولِ مِلْكِهِ بِالْأَخْذِ عَنْ حَقِّهِ كَمَا سَبَقَ ا هـ‏.‏

وَالْمُصَنِّفُ أَطْلَقَ ذَلِكَ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ تَجْدِيدِ مِلْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَوْنِهِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ قَبْلَ بَيْعِهِ أَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ فِيهِ زِيَادَةً قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ فَإِنْ بَاعَ مَا أَخَذَهُ وَتَمَلَّك ثَمَنَهُ، ثُمَّ وَفَّاهُ الْمَدْيُونُ دَيْنَهُ رَدَّ إلَيْهِ قِيمَتَهُ كَغَاصِبٍ رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ‏(‏وَلَا يَأْخُذُ‏)‏ الْمُسْتَحِقُّ ‏(‏فَوْقَ حَقِّهِ‏)‏ ‏(‏إنْ أَمْكَنَهُ الِاقْتِصَارُ‏)‏ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، فَإِنْ أَخَذَهُ ضَمِنَ الزَّائِدَ لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ إلَّا بِمَتَاعٍ تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَلَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهَا بِحَقِّهِ مِنْ الضَّرَرِ بِخِلَافِ قَدْرِ حَقِّهِ‏.‏ ثُمَّ إنْ تَعَذَّرَ بَيْعُ قَدْرِ حَقِّهِ فَقَطْ بَاعَ الْجَمِيعَ وَأَخَذَ مِنْ ثَمَنِهِ قَدْرَ حَقِّهِ، وَرَدَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ عَلَى غَرِيمِهِ بِهِبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ ذَلِكَ بَاعَ مِنْهُ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَرَدَّ مَا زَادَ كَذَلِكَ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَهُ أَخْذُ مَالِ غَرِيمِ غَرِيمِهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُوَافِقُهُ، فَإِذَا أَسْلَمَ زَوْجَانِ قَبْلَ وَطْءٍ فَقَالَ أَسْلَمْنَا مَعًا فَالنِّكَاحُ بَاقٍ، وَقَالَتْ مُرَتَّبًا فَهُوَ مُدَّعٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَهُ أَخْذُ مَالِ غَرِيمِ غَرِيمِهِ‏)‏ كَأَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو دَيْنٌ وَلِعَمْرٍو عَلَى بَكْرٍ مِثْلُهُ، فَلِزَيْدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ بَكْرٍ مَالَهُ عَلَى عَمْرٍو، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَمْرٍو تَصَرُّفَ زَيْدٍ بِالْأَخْذِ وَعَدَمِ حُسْبَانِ ذَلِكَ عَنْ دَيْنِهِ عَلَى بَكْرٍ، وَلَا إقْرَارُ بَكْرٍ لِعَمْرٍو، وَلَا جُحُودُ بَكْرٍ اسْتِحْقَاقَ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لِلْمَسْأَلَةِ شُرُوطٌ‏.‏ الْأَوَّلُ‏:‏ أَنْ لَا يَظْفَرَ بِمَالِ الْغَرِيمِ‏.‏ الثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ غَرِيمَ الْغَرِيمِ جَاحِدًا أَوْ مُمْتَنِعًا أَيْضًا، وَعَلَى الِامْتِنَاعِ يُحْمَلُ الْإِقْرَارُ الْمَذْكُورُ‏.‏ الثَّالِثُ‏:‏ أَنْ يُعْلِمَ الْآخِذُ الْغَرِيمَ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ حَتَّى إذَا طَالَبَهُ الْغَرِيمُ بَعْدُ كَانَ هُوَ الظَّالِمُ‏.‏ الرَّابِعُ‏:‏ أَنْ يُعْلِمَ غَرِيمَ الْغَرِيمِ وَحِيلَتُهُ أَنْ يُعْلِمَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ‏.‏ فَإِذَا طَالَبَهُ أَنْكَرَ، فَإِنَّهُ بِحَقٍّ، وَلَهُ اسْتِيفَاءُ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ جَاحِدًا لَهُ بِشُهُودِ دَيْنٍ آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ قَدْ أَدَّى وَلَمْ يَعْلَمُوا أَدَاءَهُ، وَلِأَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلُ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ جَحَدَ حَقَّ الْآخَرِ إنْ جَحَدَ الْآخَرُ حَقَّهُ لِيَحْصُلَ التَّقَاصُّ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ النَّقْدَيْنِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ دُونَ مَا لَلْآخَرِ عَلَيْهِ جَحَدَ مِنْ حَقِّهِ بِقَدْرِهِ، وَالْمُدَّعِي لُغَةً‏:‏ مِنْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا، سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْ ‏(‏وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ‏)‏ اصْطِلَاحًا ‏(‏مَنْ يُخَالِفُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ‏)‏ وَهُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ‏.‏ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَظْهَرُ أَيْضًا أَنَّ ‏(‏الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُوَافِقُهُ‏)‏ أَيْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ لَوْ سَكَتَ خُلِّيَ وَلَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ لَا يُخَلِّي وَلَا يَكْفِيه السُّكُوتُ، فَإِذَا ادَّعَى زَيْدٌ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ عَمْرٍو فَأَنْكَرَ فَزَيْدٌ يُخَالِفُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ مِنْ بَرَاءَةِ عَمْرٍو، وَلَوْ سَكَتَ تُرِكَ وَعَمْرٌو يُوَافِقُ قَوْلُهُ الظَّاهِرَ، وَلَوْ سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَزَيْدٌ مُدَّعٍ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلَا يَخْتَلِفُ مُوجِبُهُمَا غَالِبًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ كَالْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ ‏(‏فَإِذَا‏)‏ ‏(‏أَسْلَمَ زَوْجَانِ قَبْلَ وَطْءٍ، فَقَالَ‏)‏ الزَّوْجُ ‏(‏أَسْلَمْنَا مَعًا فَالنِّكَاحُ‏)‏ بَيْنَنَا ‏(‏بَاقٍ، وَقَالَتْ‏)‏ أَيْ الزَّوْجَةُ أَسْلَمْنَا ‏(‏مُرَتَّبًا‏)‏ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا ‏(‏فَهُوَ‏)‏ عَلَى الْأَظْهَرِ ‏(‏مُدَّعٍ‏)‏ لِأَنَّ وُقُوعَ الْإِسْلَامَيْنِ مَعًا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهِيَ مُدَّعًى عَلَيْهَا، وَعَلَى الثَّانِي هِيَ مُدَّعِيَةٌ، وَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ سَكَتَتْ تُرِكَتْ وَهُوَ لَا يُتْرَكُ لَوْ سَكَتَ لِزَعْمِهَا انْفِسَاخَ النِّكَاحِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَحْلِفُ الزَّوْجَةُ وَيَرْتَفِعُ النِّكَاحُ، وَعَلَى الثَّانِي يَحْلِفُ الزَّوْجُ وَيَسْتَمِرُّ النِّكَاحُ، وَاَلَّذِي صَحَّحَاهُ فِي نِكَاحِ الْمُشْرِكِ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى مَرْجُوحٍ‏.‏ وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إنَّمَا جُعِلَ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَ الْعِصْمَةِ قَوِيَ جَانِبُهُ، فَكَانَ هُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ كَمَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ قَوِيَ جَانِبُهُ فَكَانَ هُوَ الْمُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا‏:‏ أَسْلَمْتِ قَبْلِي فَلَا نِكَاحَ بَيْنَنَا وَلَا مَهْرَ لَكِ، وَقَالَتْ‏:‏ بَلْ أَسْلَمْنَا مَعًا صُدِّقَ فِي الْفُرْقَةِ بِلَا يَمِينٍ، وَفِي الْمَهْرِ بِيَمِينِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ وَصُدِّقَتْ بِيَمِينِهَا عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهَا لَا تُتْرَكُ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَزْعُمُ سُقُوطَ الْمَهْرِ، فَإِذَا سَكَتَتْ وَلَا بَيِّنَةَ جُعِلَتْ نَاكِلَةً وَحَلَفَ هُوَ وَسَقَطَ الْمَهْرُ، وَالْأَمِينُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ مُدَّعٍ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ الرَّدَّ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لَكِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ يَدَهُ لِغَرَضِ الْمَالِكِ، وَقَدْ ائْتَمَنَهُ فَلَا يَحْسُنُ تَكْلِيفُهُ بَيِّنَةَ الرَّدِّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ تُرِكَ، وَفِي التَّحَالُفِ كُلٌّ مِنْ الْخَصْمَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ لِاسْتِوَائِهِمَا‏.‏ ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَتَى ادَّعَى نَقْدًا اُشْتُرِطَ بَيَانُ جِنْسٍ وَنَوْعٍ وَقَدْرٍ وَصِحَّةٌ وَتَكَسُّرٌ إنْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا قِيمَةٌ، أَوْ عَيْنًا تَنْضَبِطُ كَحَيَوَانٍ وَصَفَهَا بِصِفَةِ السَّلَمِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ يَجِبُ مَعَهَا ذِكْرُ الْقِيمَةَ، فَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ وَجَبَ ذِكْرُ الْقِيمَةِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ دَعْوَى الدَّمِ وَالْقَسَامَةِ أَنَّ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى سِتَّةَ شُرُوطٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بَعْضَهَا، وَذَكَرْت بَاقِيَهَا فِي الشَّرْحِ ‏(‏وَ‏)‏ ذُكِرَ مِنْهَا هُنَا شَرْطَانِ‏:‏ الْأَوَّلُ‏:‏ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً فَعَلَيْهِ ‏(‏مَتَى‏)‏ ‏(‏ادَّعَى‏)‏ شَخْصٌ دَيْنًا ‏(‏نَقْدًا‏)‏ أَوْ غَيْرَهُ مِثْلِيًّا أَوْ مُتَقَوِّمًا ‏(‏اُشْتُرِطَ‏)‏ فِيهِ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى ‏(‏بَيَانُ جِنْسٍ‏)‏ لَهُ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ‏(‏وَنَوْعٍ‏)‏ لَهُ كَخَالِصٍ أَوْ مَغْشُوشٍ ‏(‏وَقَدْرٍ‏)‏ كَمِائَةٍ، وَصِفَةٍ يَخْتَلِفُ بِهَا الْغَرَضُ ‏(‏وَ‏)‏ يُشْتَرَطُ فِي النَّقْدِ أَيْضًا شَيْئَانِ ‏(‏صِحَّةٌ وَتَكَسُّرٌ إنْ اخْتَلَفَتْ بِهِمَا قِيمَةُ‏)‏ كَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِضَّةٍ ظَاهِرِيَّةٍ صِحَاحٍ أَوْ مُكَسَّرَةٍ، فَلَا يَكْفِي إطْلَاقُ النَّقْدِ، وَإِنْ غَلَبَ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفَارَقَ الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ بِأَنَّ زَمَنَ الْعَقْدِ يُقَيِّدُ صِفَةَ الثَّمَنِ بِالْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنِ الدَّعْوَى لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا‏.‏ نَعَمْ مُطْلَقُ الدِّينَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ وَزْنِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ مُطْلَقُ الدِّرْهَمِ‏.‏ أَمَّا إذَا لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَةُ النَّقْدِ بِالصِّحَّةِ وَالتَّكَسُّرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِمَا، لَكِنْ اسْتَثْنَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ دَيْنَ السَّلَمِ فَاعْتَبَرَا بَيَانَهُمَا فِيهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ لَمْ يَدَّعِ الشَّخْصُ دَيْنًا، بَلْ ادَّعَى ‏(‏عَيْنًا تَنْضَبِطُ‏)‏ بِالصِّفَةِ مُتَقَوِّمَةً كَانَتْ ‏(‏كَحَيَوَانٍ‏)‏ وَثِيَابٍ أَوْ مِثْلِيَّةٍ كَحُبُوبٍ ‏(‏وَصَفَهَا‏)‏ وُجُوبًا ‏(‏بِصِفَةِ السَّلَمِ‏)‏ السَّابِقَةِ فِي بَابِهِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَ الصِّفَةِ الْقِيمَةِ فِي الْأَصَحِّ ‏(‏وَقِيلَ‏:‏ يَجِبُ مَعَهَا‏)‏ أَيْ صِفَةِ السَّلَمِ ‏(‏ذِكْرُ الْقِيمَةِ‏)‏ لِتِلْكَ الْعَيْنِ الْمَوْصُوفَةِ، فَإِنْ لَمْ تَنْضَبِطْ بِالصِّفَاتِ كَالْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَجَبَ ذِكْرُ الْقِيمَةِ فَيَقُولُ‏:‏ جَوْهَرٌ قِيمَتُهُ كَذَا، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَثْنَى مَا لَوْ غَصَبَ غَيْرُهُ مِنْهُ عَيْنًا فِي بَلَدٍ ثُمَّ لَقِيَهُ فِي آخَرَ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَلَكِنْ لِنَقْلِهَا مُؤْنَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ ذِكْرُ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا الْمُسْتَحَقَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِذَا رَدَّ الْعَيْنَ رَدَّ الْقِيمَةَ، وَيُبَيِّنُ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ النَّاحِيَةَ وَالْبَلَدَ وَالْمَحَلَّةَ وَالسِّكَّةَ وَالْحُدُودَ، وَأَنَّهُ فِي يَمْنَةٍ دَاخِلِ السِّكَّةِ أَوْ يَسْرَتِهِ أَوْ صَدْرِهَا ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ، وَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ الْقِيمَةِ كَمَا عُلِمَ كَمَا مَرَّ‏.‏ وَهَذَا إنْ بَقِيَتْ الْعَيْنُ ‏(‏فَإِنْ تَلِفَتْ وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ‏)‏ بِكَسْرِ الْوَاوِ ‏(‏وَجَبَ‏)‏ مَعَ ذَلِكَ ‏(‏ذِكْرُ الْقِيمَةِ‏)‏؛ لِأَنَّهَا الْوَاجِبَةُ عِنْدَ التَّلَفِ، فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِ شَيْءٍ مَعَهَا مِنْ الصِّفَاتِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُمْ، لَكِنْ يَجِبُ ذِكْرُ الْجِنْسِ فَيَقُولُ‏:‏ عَبْدٌ قِيمَتُهُ مِائَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً لَمْ يَجِبْ ذِكْرُ قِيمَةٍ، وَيَكْفِي الضَّبْطُ بِالصِّفَاتِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَوْ كَانَ التَّالِفُ سَيْفًا مُحَلًّى ذَكَرَ قِيمَتَهُ بِالذَّهَبِ إنْ كَانَتْ حِلْيَتُهُ فِضَّةً، وَبِالْفِضَّةِ إنْ كَانَتْ حِلْيَتُهُ ذَهَبًا‏.‏ وَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِهِمَا قُوِّمَ بِأَحَدِهِمَا لِلضَّرُورَةِ، وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي الرَّوْضَةِ هُنَا تَبَعًا لِأَصْلِهِ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُهُمَا فِي بَابِ الْغَصْبِ، فَقَالَ هُنَاكَ إنَّ تِبْرَ الْحُلِيِّ يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ وَيَبِيعُهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ، وَقَالَ أَصْلُهُ أَنَّ الْمُحَلَّى يَضْمَنُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الرِّبَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْعُقُودِ لَا فِي الْغَرَامَاتِ ا هـ‏.‏

وَيُقَوَّمُ مَغْشُوشُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ كَعَكْسِهِ إذَا قُلْنَا‏:‏ إنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فَيَدَّعِي مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ نَقْدِ كَذَا قِيمَتُهَا كَذَا دِرْهَمًا أَوْ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ نَقْدِ كَذَا قِيمَتُهَا كَذَا دِينَارًا، فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إنَّهَا مِثْلِيَّةٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَلَا يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِقِيمَتِهَا‏.‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْمُدَّعَى بِهِ مَسَائِلُ تَصِحُّ الدَّعْوَى فِيهَا بِالْمَجْهُولِ مِنْهَا الْإِقْرَارُ وَلَوْ بِنِكَاحٍ كَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَمِنْهَا الْوَصِيَّةُ تَحَرُّزًا عَنْ ضَيَاعِهَا، وَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْجَهْلَ فَكَذَا دَعْوَاهَا، وَمِنْهَا فَرْضُ الْمُفَوَّضَةِ؛ لِأَنَّهَا تَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا الْبَيَانُ، وَمِثْلُهُ الْمُتْعَةُ وَالْحُكُومَةُ وَالرَّضْخُ وَخَطُّ الْكِتَابَةِ وَالْغُرَّةُ وَالْإِبْرَاءُ الْمَجْهُولُ فِي إبِلِ الدِّيَةِ، بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ فِيهَا‏.‏ وَمِنْهَا حَقُّ مَمَرٍّ أَوْ إجْرَاءُ الْمَاءِ فِي أَرْضٍ جُدِّدَتْ اكْتِفَاءً بِتَحْدِيدِ الْأَرْضِ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي‏.‏ وَمِنْهَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِهَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهَا‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

لَوْ أَحْضَرَ وَرَقَةً فِيهَا دَعْوَاهُ، ثُمَّ ادَّعَى مَا فِي الْوَرَقَةِ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِمَا مَرَّ هَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ أَوْ لَا‏؟‏ وَجْهَانِ‏:‏ أَوْجَهُهُمَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الزَّرْكَشِيُّ الْأَوَّلُ إذَا قَرَأَهُ الْقَاضِي أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ نِكَاحًا لَمْ يَكْفِ الْإِطْلَاقُ عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ يَقُولُ نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ وَرِضَاهَا إنْ كَانَ يُشْتَرَطُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَالشَّرْطُ الثَّانِي الْمَذْكُورُ هُنَا لِصِحَّةِ الدَّعْوَى‏.‏ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى تَلْزَمُهُ، فَلَوْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ هِبَةً أَوْ بَيْعًا أَوْ دَيْنًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا الْغَرَضُ مِنْهُ تَحْصِيلُ الْحَقِّ فَلْيَذْكُرْ فِي دَعْوَاهُ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ وَيَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ إلَيَّ أَوْ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ الْأَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ الْوَاهِبُ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيَكُونُ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أَوْ مَنْ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَلَوْ قَصَدَ بِالدَّعْوَى رَفْعَ الْمُنَازَعَةِ لَا تَحْصِيلَ الْحَقِّ، فَقَالَ‏:‏ هَذِهِ الدَّارُ لِي، وَهُوَ يَمْنَعْنِيهَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هِيَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنَازِعَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ لَمْ يَدَّعِ دَيْنًا وَلَا عَيْنًا، بَلْ ادَّعَى ‏(‏نِكَاحًا لَمْ يَكْفِ الْإِطْلَاقُ‏)‏ فِيهِ ‏(‏عَلَى الْأَصَحِّ‏)‏ الْمَنْصُوصِ ‏(‏بَلْ‏)‏ يُقَيَّدُ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ ‏(‏يَقُولُ نَكَحْتُهَا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ‏)‏ قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ وَهَذَا لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْعَدَالَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِوَلِيٍّ عَدْلٍ، لَكِنْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ الْمُرَادُ بِالْمُرْشِدِ مَنْ دَخَلَ فِي الرُّشْدِ أَيْ صَلُحَ لِلْوِلَايَةِ، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ الْعَدْلِ وَالْمَسْتُورِ وَالْفَاسِقِ إذَا قُلْنَا يَلِي‏:‏ أَيْ أَوْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ بِالشَّوْكَةِ ‏(‏وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ‏)‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَيَنْبَغِي الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ وَشَاهِدَيْنِ بِغَيْرِ وَصْفِهِمَا بِالْعَدَالَةِ، فَقَدْ ذَكَرُوا فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَوْ رُفِعَ نِكَاحُ عَقْدٍ بِمَسْتُورَيْنِ إلَى حَاكِمٍ لَمْ يُنْقَضْ‏.‏ نَعَمْ إنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ احْتَاجَ الْحَاكِمُ إلَى التَّزْكِيَةِ ‏(‏وَرِضَاهَا إنْ كَانَ يُشْتَرَطُ‏)‏ بِأَنْ كَانَتْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٌّ لِآدَمِيٍّ، وَإِذَا وَقَعَ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ فَاحْتِيطَ فِيهِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ يَكْفِي الْإِطْلَاقُ فِيهِ كَالْمَالِ، وَكَمَا لَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاءُ ذِكْرِ الْمَوَانِعِ كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ‏.‏ وَأَجَابَ الْأَوَّلُ عَنْ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ بِمَا مَرَّ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الشُّرُوطَ يُعْتَبَرُ وُجُودُهَا لِيَصِحَّ الْعَقْدُ، وَالْمَوَانِعُ يُعْتَبَرُ عَدَمُهَا، وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ فَاكْتَفَى بِهِ، وَلِأَنَّهَا كَثِيرَةٌ يَعْسُرُ ضَبْطُهَا‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْأَصَحُّ وُجُوبُ ذِكْرِ الْعَجْزِ عَنْ طَوْلٍ وَخَوْفِ عَنَتٍ، أَوْ عَقْدًا مَالِيًّا كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ كَفَى الْإِطْلَاقُ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَالَ الْبُلْقِينِيُّ‏:‏ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَنْكِحَةُ الْكُفَّارِ، فَيَكْفِي فِي الدَّعْوَى بِهَا أَنْ يَقُولَ‏:‏ هَذِهِ زَوْجَتِي، وَإِنْ ادَّعَى اسْتِمْرَارَ نِكَاحِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مَا يَقْتَضِي تَقْرِيرُهُ حِينَئِذٍ، وَلَا بُدَّ فِيمَا إذَا كَانَ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا مِنْ قَوْلِهِ نَكَحْتُهَا بِإِذْنِ وَلِيِّي أَوْ مَالِكِي، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ، وَالدَّعْوَى تَكُونُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَعَلَى وَلِيِّهَا الْمُجْبِرِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِمَا بِهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِالنِّكَاحِ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِيهَا عَنْ تَصْحِيحِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لِلزَّوْجِ لَا لَهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ لَكِنَّ الْأَئِمَّةَ جَانِحُونَ إلَى تَرْجِيحِ السَّمَاعِ ا هـ‏.‏

وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِذَا ادَّعَتْ فَفِي اشْتِرَاطِ التَّفْصِيلِ وَعَدَمِهِ مَا فِي اشْتِرَاطِهِ فِي دَعْوَى الزَّوْجِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَفْصِيلٌ فِي إقْرَارِهَا بِنِكَاحٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقِرُّ إلَّا عَنْ تَحْقِيقٍ، وَيُشْتَرَطُ تَفْصِيلُ الشُّهُودِ بِالنِّكَاحِ تَبَعًا لِلدَّعْوَى‏.‏ وَلَا يُشْتَرَطُ قَوْلُهُمْ‏:‏ وَلَا نَعْلَمُهُ فَارَقَهَا، وَهِيَ إِلَى الْيَوْمِ زَوْجَتُهُ ‏(‏فَإِنْ كَانَتْ‏)‏ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْمُدَّعِي نِكَاحَهَا ‏(‏أَمَةً‏)‏ أَوْ مُبَعَّضَةً وَالزَّوْجُ حُرٌّ ‏(‏فَالْأَصَحُّ‏)‏ يَجِبُ مَعَ مَا سَبَقَ ‏(‏وُجُوبُ ذِكْرِ الْعَجْزِ عَنْ طَوْلٍ‏)‏ أَيْ مَهْرٍ يَنْكِحُ بِهِ حُرَّةً ‏(‏وَ‏)‏ وُجُوبُ ذِكْرِ ‏(‏خَوْفِ عَنَتٍ‏)‏ أَيْ الزِّنَا الْمُشْتَرَطَيْنِ فِي جَوَازِ نِكَاحِ مَنْ بِهَا رِقٌّ؛ لِأَنَّ الْفُرُوجَ يُحْتَاطُ لَهَا كَالدِّمَاءِ، وَقِيَاسُ هَذَا وُجُوبُ التَّعَرُّضِ لَهَا فِي الشُّرُوطِ مِنْ كَوْنِهِ لَا حُرَّةً تَحْتَهُ تَصْلُحُ، وَكَوْنِ الْأَمَةِ مُسْلِمَةً إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي‏:‏ لَا يَجِبُ كَمَا لَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِعَدَمِ الْمَوَانِعِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ ‏(‏أَوْ‏)‏ لَمْ يَدَّعِ نِكَاحًا، بَلْ ادَّعَى ‏(‏عَقْدًا مَالِيًّا‏)‏ ‏(‏كَبَيْعٍ وَهِبَةٍ‏)‏ لَمْ يُشْتَرَطْ تَفْصِيلٌ، وَ ‏(‏كَفَى الْإِطْلَاقُ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ حُكْمًا مِنْ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِشْهَادُ بِخِلَافِهِ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ يُشْتَرَطُ كَالنِّكَاحِ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ إنْ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِجَارِيَةٍ وَجَبَ احْتِيَاطًا لِلْبُضْعِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ

تَنْبِيهٌ‏:‏

مُقْتَضَى تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْإِطْلَاقِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّقْيِيدُ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ فِي الْوَسِيطِ اشْتِرَاطُهُ، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي غَيْرِ بُيُوعِ الْكُفَّارِ فَإِذَا تَبَايَعُوا بُيُوعًا فَاسِدَةً وَتَقَايَضُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ أَوْ بِإِلْزَامِ حَاكِمِهِمْ فَإِنَّا نُمْضِيهَا عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْجِزْيَةِ، فَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى ذِكْرِ الشُّرُوطِ‏.‏ وَتُسْمَعُ الدَّعْوَى مِنْ الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ وَلَا مُعَامَلَةٌ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ طَبَقَاتِ النَّاسِ فَتَصِحُّ دَعْوَى دَنِيءٍ عَلَى شَرِيفٍ وَإِنْ شَهِدَتْ قَرَائِنُ الْحَالِ بِكَذِبِهِ كَأَنْ ادَّعَى ذِمِّيٌّ اسْتِئْجَارَ أَمِيرٍ أَوْ فَقِيهٍ لِعَلَفِ دَوَابِّهِ، وَكَنْسِ بَيْتِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي، فَإِنْ ادَّعَى أَدَاءً أَوْ إبْرَاءً أَوْ شِرَاءَ عَيْنٍ أَوْ هِبَتَهَا وَإِقْبَاضَهَا حَلَّفَهُ عَلَى نَفْيِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ‏)‏ بِحَقٍّ ‏(‏فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي‏)‏ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ حُجَّةٍ بَعْدَ حُجَّةٍ، بَلْ هُوَ كَالطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ صُورَتَانِ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ إذَا أُقِيمَتْ بَيِّنَةٌ بِعَيْنٍ لِشَخْصٍ، وَقَالَتْ الْبَيِّنَةُ لَا نَعْلَمُهُ بَاعَهَا وَلَا وَهَبَهَا فَيَحْلِفُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏:‏ إنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، ثُمَّ تُدْفَعُ إلَيْهِ الثَّانِيَةُ إذَا أُقِيمَتْ بَيِّنَةٌ بِإِعْسَارِ الْمَدْيُونِ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ تَحْلِيفُهُ فِي الْأَصَحِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فِي الْبَاطِنِ ‏(‏فَإِنْ ادَّعَى‏)‏ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مُسْقِطًا لَهُ كَأَنْ ادَّعَى ‏(‏أَدَاءً‏)‏ لَهُ ‏(‏أَوْ إبْرَاءً‏)‏ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ ‏(‏أَوْ شِرَاءَ عَيْنٍ‏)‏ مِنْ مُدَّعِيهَا ‏(‏أَوْ هِبَتَهَا وَإِقْبَاضَهَا‏)‏ مِنْهُ ‏(‏حَلَّفَهُ‏)‏ خَصْمُهُ ‏(‏عَلَى نَفْيِهِ‏)‏ أَيْ نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَا تَأَدَّى مِنْهُ الْحَقُّ وَلَا أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ وَلَا بَاعَهُ الْعَيْنَ، وَلَا وَهَبَهُ إيَّاهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ ذَلِكَ إذَا ادَّعَى حُدُوثَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمِ، وَكَذَا بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنِ إمْكَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمْضِ زَمَنُ إمْكَانِهِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وَكَذَا إنْ ادَّعَى بَعْدَ الْحُكْمِ حُدُوثَهُ قَبْلَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ لِثُبُوتِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ‏.‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ الْأَدَاءَ مَا لَوْ قَالَ الْأَجِيرُ عَلَى الْحَجِّ قَدْ حَجَجْت، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيِّنَةٌ وَلَا يَمِينٌ، قَالَهُ الزَّبِيلِيُّ‏:‏ قَالَ‏:‏ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَادَّعَتْ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا قُبِلَ مِنْهَا وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَلَا يَمِينَ، وَشَمِلَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ الْإِبْرَاءَ مَا لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، لَكِنَّ الْأَصَحَّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ نَفْسِ الدَّعْوَى لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا تَصْوِيرُ صُلْحٍ عَلَى إنْكَارٍ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ عَلَى نَفْيِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ تَوْفِيَةَ الدَّيْنِ أَوَّلًا، بَلْ يَحْلِفُ الْمُدَّعِي ثُمَّ يَسْتَوْفِي وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

المتن‏:‏

وَكَذَا لَوْ ادَّعَى عِلْمَهُ بِفِسْقِ شَاهِدِهِ أَوْ كَذِبَهُ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَكَذَا لَوْ‏)‏ ‏(‏ادَّعَى‏)‏ الْخَصْمُ ‏(‏عِلْمَهُ‏)‏ أَيْ الْمُدَّعِي ‏(‏بِفِسْقِ شَاهِدِهِ‏)‏ الَّذِي أَقَامَهُ ‏(‏أَوْ كَذِبَهُ‏)‏ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ أَيْضًا عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِ حَقًّا، وَإِنَّمَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَمْرًا لَوْ ثَبَتَ لِنَفْعِهِ، وَاحْتُرِزَ بِالْبَيِّنَةِ أَيْ فَقَطْ عَمَّا لَوْ حَلَفَ الْمُدَّعِي قَبْلَ ذَلِكَ إمَّا مَعَ شَاهِدٍ أَوْ يَمِينِ الِاسْتِظْهَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ كَمَا صَوَّبَهُ الْبُلْقِينِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ يُعَرِّضُ فِيهِ الْحَالِفُ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْحَقَّ فَلَا يَحْلِفُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ذَكَرَ الْجِيلِيُّ فِي الْإِعْجَازِ أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ‏:‏ إذَا ادَّعَى عَلَى الْمَيِّتِ مَالًا أَوْ قَتْلًا وَأَنْكَرَ الْوَرَثَةُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ يُحْكَمْ لَهُ حَتَّى يَحْلِفَ مَعَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ إلَى الْآنِ، وَكَذَا إنْ ادَّعَى عَلَى غَائِبٍ أَوْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، وَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى امْرَأَةٍ وَطْئًا فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَفْيِ الْبَكَارَةِ فَيَحْلِفُ مَعَهَا لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الْبَكَارَةِ، وَإِذَا أَقَامَ عَلَى رَجُلٍ بَيِّنَةً بِمَالٍ ادَّعَاهُ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ‏:‏ احْلِفْ أَنَّك تَسْتَحِقُّ هَذَا الْمَالَ وَلَمْ يُكَذِّبْ الشُّهُودَ، وَلَكِنْ قَالَ بَاطِنُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْآنَ، وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَقَالَ‏:‏ أَرَدْتُ أَنَّهَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً مِنْ غَيْرِي وَأَقَامَ بَيِّنَةً حَلَفَ مَعَهَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ، وَإِذَا ادَّعَى الْوَدِيعُ هَلَاكَ الْوَدِيعَةِ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى السَّبَبِ حَلَفَ عَلَى الْهَلَاكِ بِهِ، وَفِي الْجِرَاحِ فِي الْعُضْوِ الْبَاطِنِ إذَا قَالَ‏:‏ إنَّهُ كَانَ صَحِيحًا وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً حَلَفَ مَعَهَا، وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إذَا أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ حَلَفَ مَعَهَا‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ نَظَرٌ، وَمِنْهَا مَا الْحَلِفُ فِيهِ مُسْتَحَبٌّ لَا مُسْتَحَقٌّ ا هـ وَلَعَلَّهُ يُشِيرُ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَوْضِعِ السَّابِعِ وَبِالِاسْتِحْبَابِ إلَى الثَّامِنِ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِذَا اسْتَمْهَلَ لِيَأْتِيَ بِدَافِعٍ أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَإِذَا اسْتَمْهَلَ‏)‏ أَيْ طَلَبَ الْإِمْهَالَ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ‏(‏لِيَأْتِيَ بِدَافِعٍ‏)‏ فِيهَا اُسْتُفْسِرَ إنْ كَانَ جَاهِلًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ مَا لَيْسَ بِدَافِعٍ دَافِعًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَارِفًا، فَإِنْ عَيَّنَّ جِهَةً مِنْ نَحْوِ أَدَاءً أَوْ إبْرَاءٍ أَوْ كَانَ عَارِفًا ‏(‏أُمْهِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ‏)‏؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ لَا يَعْظُمُ الضَّرَرُ فِيهَا، وَمُقِيمُ الْبَيِّنَةِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا لِلْفَحْصِ عَنْ الشُّهُودِ، وَلَوْ أَحْضَرَ بَعْدَ الثَّلَاثِ الشُّهُودَ وَلَمْ يَعْدِلُوا أُمْهِلَ ثَلَاثًا لِلتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِظْهَارٌ لِبَيِّنَةٍ فِي شَهَادَةٍ أُخْرَى كَمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَأَقَرَّهُ وَلَوْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَعْدَ الْمُدَّةِ لَمْ يُمْهَلْ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا سُمِعَتْ دَعْوَاهُ، وَلَوْ حَضَرَ فِي الثَّلَاثِ بِشَاهِدٍ وَاسْتُمْهِلَ بِالثَّانِي أُمْهِلَ ثَلَاثَةً مُسْتَقْبِلَةً كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابَةِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ ادَّعَى الْأَدَاءَ وَأَنْكَرَ السَّيِّدُ وَأَرَادَ الْعَبْدُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ أُمْهِلَ ثَلَاثًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَهَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ‏؟‏ وَجْهَانِ‏.‏ ا هـ‏.‏

وَقِيَاسُ مَا هُنَا الْوُجُوبُ، وَلَوْ عَادَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ وَسَأَلَ الْقَاضِيَ تَحْلِيفَ الْمُدَّعِي عَلَى نَحْوِ إبْرَاءٍ أَجَابَهُ إلَيْهِ لِتَيَسُّرِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا يُكَلَّفُ تَسْلِيمَ الدَّيْنِ أَوَّلًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ فَقَالَ‏:‏ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، أَوْ رِقَّ صَغِيرٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ فِي يَدِهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ إنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْتِنَادَهَا إلَى الْتِقَاطٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ‏)‏ ‏(‏ادَّعَى رِقَّ بَالِغٍ‏)‏ عَاقِلٍ ‏(‏فَقَالَ‏:‏ أَنَا حُرٌّ‏)‏ بِالْأَصَالَةِ ‏(‏فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ‏)‏ بِيَمِينِهِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَسَبَقَ مِنْ مُدَّعِي رِقَّهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى الرِّقِّ ظَاهِرًا كَاسْتِخْدَامٍ وَإِجَارَةٍ لِمُوَافَقَتِهِ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ مَا ذُكِرَ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِرِقٍّ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ الرِّقِّ وَقَدْ اشْتَرَاهُ الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِهِ رَجَعَ الْمُدَّعِي عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ، وَلَوْ اعْتَرَفَ حَالَةَ الْخُصُومَةِ بِرِقِّهِ وَقَالَ‏:‏ إنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهِ الْخُصُومَةِ، أَوْ اعْتَمَدَ فِي اعْتِرَافِهِ بِهِ ظَاهِرَ الْيَدِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ حُرٌّ؛ أَيْ بِالْأَصَالَةِ كَمَا مَرَّ مَا لَوْ قَالَ‏:‏ أَعْتَقْتَنِي أَوْ أَعْتَقَنِي الَّذِي بَاعَنِي مِنْك أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَمَا لَوْ قَالَ‏:‏ أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ فَالْمُصَدَّقُ السَّيِّدُ لِاعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِالرِّقِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْيَدُ وَالْيَدُ عَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي آخِرِ الدَّعَاوَى تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ أَنَّ بَيِّنَةَ الرِّقِّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ وَهُوَ إثْبَاتُ الرِّقِّ، وَنَقَلَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى ‏(‏أَوْ‏)‏ ادَّعَى ‏(‏رِقَّ صَغِيرٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ‏)‏ ‏(‏لَمْ يُقْبَلْ‏)‏ مِنْهُ ‏(‏إلَّا بِبَيِّنَةٍ‏)‏؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمِلْكِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ الْمَجْنُونَ الْبَالِغَ كَالصَّغِيرِ، وَلَوْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَصَدَّقَهُ صَاحِبُ الْيَدِ كَفَى تَصْدِيقُهُ مَعَ حَلِفِ الْمُدَّعِي ‏(‏أَوْ‏)‏ ادَّعَى رِقَّ صَغِيرٍ ‏(‏فِي يَدِهِ حُكِمَ لَهُ بِهِ‏)‏ بَعْدَ حَلِفِهِ ‏(‏إنْ لَمْ يَعْرِفْ اسْتِنَادَهَا‏)‏ أَيْ يَدَ الْمُدَّعِي ‏(‏إلَى الْتِقَاطٍ‏)‏ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ فِي دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ، وَإِنَّمَا حَلَفَ لِخَطَرِ شَأْنِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا أَثَرَ لِإِنْكَارِهِ إذَا بَلَغَ بِهِ بَلْ يَسْتَمِرُّ الرِّقُّ، فَإِنْ اسْتَنَدَتْ إلَى الْتِقَاطٍ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ ذَكَرَهَا فِي اللَّقِيطِ فَهِيَ مُكَرَّرَةٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ‏.‏

المتن‏:‏

فَلَوْ أَنْكَرَ الصَّغِيرُ وَهُوَ مُمَيِّزٌ فَإِنْكَارُهُ لَغْوٌ، وَقِيلَ كَبَالِغٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏فَلَوْ‏)‏ ‏(‏أَنْكَرَ الصَّغِيرُ‏)‏ الرِّقَّ ‏(‏وَهُوَ مُمَيِّزٌ‏)‏ ‏(‏فَإِنْكَارُهُ لَغْوٌ‏)‏؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ مُلْغَاةٌ ‏(‏وَقِيلَ‏)‏ إنْكَارُهُ ‏(‏كَبَالِغٍ‏)‏ فِي إنْكَارِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِرِقِّهِ لِمُدَّعِيهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ أَنْكَرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ فِي صُورَةِ عَدَمِ الِاسْتِنَادِ لَمْ يُؤَثِّرْ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى‏)‏ بِحَالٍ عَلَى مَنْ اعْتَرَفَ الْمُدَّعِي بِإِعْسَارِهِ، وَلَا دَعْوَى ‏(‏دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ‏)‏ وَإِنْ كَانَ بِهِ بَيِّنَةٌ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ إذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إلْزَامٌ وَمُطَالَبَةٌ فِي الْحَالِ فَيَفُوتُ نِظَامُ الدَّعْوَى‏.‏ وَالثَّانِي‏:‏ تُسْمَعُ مُطْلَقًا لِيَثْبُتَ فِي الْحَالِ وَيُطَالِبَ بِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ وَقَدْ يَمُوتُ مَنْ عَلَيْهِ فَتَتَعَجَّلُ الْمُطَالَبَةُ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ إنْ كَانَ بِهِ بَيِّنَةٌ سُمِعَتْ، وَإِلَّا فَلَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُسْتَثْنَى عَلَى الْأَوَّلِ صُوَرٌ‏:‏ الْأُولَى‏:‏ إذَا كَانَ بَعْضُ الدَّيْنِ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا فَإِنَّ الدَّعْوَى تَصِحُّ بِهِ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ‏:‏ وَيَدَّعِي بِجَمِيعِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمُطَالَبَةَ بِالْبَعْضِ وَيَكُونُ الْمُؤَجَّلُ تَبَعًا‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الدَّعْوَى بِذَلِكَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَالَّ إذَا كَانَ قَلِيلًا كَدِرْهَمٍ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ يَبْعُدُ الِاسْتِتْبَاعُ فِيهِ، وَبِأَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الدَّعْوَى لَمْ يُفِدْ، وَإِنْ قَالَ‏:‏ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأَلْفِ إلَيَّ لَمْ تَصِحَّ الدَّعْوَى وَكَانَ كَاذِبًا، وَإِنْ فَصَّلَ وَبَيَّنَ كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ دَعْوَتَيْنِ فَأَيْنَ مَحَلُّ الِاسْتِتْبَاعِ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِتْبَاعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُ الْكَثِيرِ تَابِعًا لِلْقَلِيلِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ‏.‏ الثَّانِيَةُ‏:‏ لَوْ كَانَ الْمُؤَجَّلُ فِي عَقْدٍ كَمُسْلِمٍ وَقَصَدَ بِدَعْوَاهُ بِهِ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا مُسْتَحَقٌّ فِي الْحَالِ، قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا‏.‏ الثَّالِثَةُ‏:‏ إذَا ادَّعَى عَلَى الْقَاتِلِ بِقَتْلٍ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ فَإِنَّهَا تُسْمَعُ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُوجِبُ دِيَةً مُؤَجَّلَةٍ، فَلَوْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ تُسْمَعْ جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ لُزُومُهُ لِمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ لِجَوَازِ مَوْتِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ وَإِعْسَارِهِ آخِرَهُ، ذَكَرَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَقَالَ‏:‏ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ‏.‏

تَتِمَّةٌ‏:‏

تُسْمَعُ الدَّعْوَى بِاسْتِيلَادٍ وَتَدْبِيرٍ وَتَعَلُّقِ عِتْقٍ بِصِفَةٍ وَلَوْ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ نَاجِزَةٌ وَجَوَابُ مَنْ ادَّعَى دَيْنًا مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُهُ الْآنَ، وَلَا يَجُوزُ إنْكَارُهُ اسْتِحْقَاقَهُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ إنَّهُ الْمَذْهَبُ كَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ جَدِّهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ خَصْمُهُ بِثَوْبٍ مَثَلًا وَادَّعَى تَلَفَهُ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ ثُمَّ يَقْنَعُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمُقِرُّ لَهُ عَلَى بَقَائِهِ وَطَالَبَهُ بِهِ‏.‏